تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتاب الله عليهم كلهم».

وروى أحمد ومسلم عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشجّ فى وجهه حتى سال الدم على وجهه ، فقال : كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا وهو يدعوهم إلى ربهم ، فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية.

وإن لما حدث فى وقعة أحد لحكما دينية واجتماعية وحربية يمكن أن نحملها لك فيما يلى :

كان المؤمنون فى وقعة بدر واثقين بنصر الله لنبيه وإظهار دينه ، لم يضعف إيمانهم بذلك قلتهم وضعفهم ، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم ، ولما رأوا تباشير النصر ازدادوا إيمانا بأنهم المنصورون ، وأن جندهم هم الغالبون ولكن خيّل إلى الكثير منهم أن النصر سيكون بالآيات ، وخوارق العادات ، من غير التزام السنن الإلهية التي جعلها الله فى هذا الكون ، وبنى عليها نظم الحياة ، وأن وجود الرسول بين ظهرانيهم ، ودعاءه ربه واستغاثته إياه أشد نكالا بالعدو من اتباع السنن الظاهرة التي من أهمها التزام النظام العسكري وإطاعة القائد ، وجودة التعبئة ، وحسن الحيلة ، والتدبير فى وضع الخطط الحربية ، إلى نحو أولئك.

وفاتهم أن الدين الإسلامى دين الفطرة ، لا دين خوارق العادات ، وسلوك طريق المعجزات.

فلما قصّروا فى الأخذ بالأسباب يوم أحد ظهر عليهم عدوهم ، وجرح الرسول ، وإن كان هو لم يقصر ولم ينهزم ، ولكن البلاء إذا نزل لا يخص من كان السبب فى وجوده كما قال تعالى : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» وكان من هذا درس عظيم للمؤمنين لمسوه بأيديهم وعلموا أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد شىء ، وإنما هو معلّم وأسوة حسنة فيما يعلم ، والأمر كله لله يدبره بمقتضى سننه فى الخلق.

٦١

هذا البيان الإلهى فى تلك الموقعة التي رأوا نتائجها بأعينهم ـ برهان ساطع أمام الملأ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ لو كان زعيما سياسيا ، ومؤسسا لبناء مملكة يريد توطيد دعائمها بفتوحه لأطراف البلاد ، لما قال مثل هذا القول فى مواطن الدفاع ، وحب النصر على الأعداء. ولا سبيل للنصر على العدو إلا بالاستعداد والحيطة ، وحسن التدبير والكياسة الحربية ، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» ولا قوة إلا بالعلم والمال ، ولا مال إلا إذا انتشر العدل فى الأمة وبث بين أفرادها روح التعاون والشورى فى مهامّ الأمور كما قال : «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ».

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال ابن جرير : أي لله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها ، دونك ودونهم ، يحكم فيهم بما شاء ، ويقضى فيهم بما أحب ، فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه ، ثم يغفر له ، ويعاقب من شاء منهم على جرمه ، فينتقم منه ، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه ، بفضله عليهم بالعفو والصفح ، وهو الرحيم بهم فى تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم اه.

وفى هذا تأديب من الله لرسوله ، وإعلام له بأن الدعاء على المشركين ولعنهم مما لم يكن ينبغى منك ، إذ الأمر كله لله ، وليس لأحد من أهل السموات والأرض شركة معه ولا رأى ولا تدبير فيهما ، وإن كان ملكا مقرّبا أو نبيا مرسلا ، إلا من سخره الله للقيام بشىء من ذلك ، فيكون خاضعا لذلك التسخير ، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع.

٦٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))

تفسير المفردات

ضعف الشيء : مثله الذي يثنيه ، فضعف الواحد واحد ، لأنه إذا أضيف إليه ثناه ، وإذا ضاعفت الشيء منحت إليه مثله مرة فأكثر ، وهذه المضاعفة إما فى الزيادة فقط التي هى الربا ، وإما بالنسبة إلى رأس المال كما هو حاصل الآن فقد يستدين الإنسان المائة بثلاثمائة ، واتقوا الله : أي اجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه ، أعدت : أي هيئت ، والمسارعة إلى المغفرة والجنة المبادرة إلى الأسباب الموصلة إليهما من الأعمال الصالحة كالإقبال على الصدقات وعمل الخيرات والتوبة عن الآثام كالربا ونحوه ، وعرضها السموات والأرض : يراد به وصفها بالسعة ، والعرب تقول دعوى عريضة أي واسعة عظيمة. والسراء : الحال التي تسر ، والضراء : الحال التي تضر ، وفسرهما ابن عباس باليسر والعسر أي السعة والضيق ، ويقال كظم القربة أي ملأها وسدّ رأسها ، وكظم الباب سده ، وكظم البعير جرّته إذا ازدردها وكف عن الاجترار ، ثم قالوا كظم الغيظ فهو كاظم ، وكظمه الغيظ والغم أخذ

٦٣

بنفسه فهو مكظوم وكظيم قال تعالى : «ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» وأخذ فلان بكظم فلان : إذا أخذ بمجرى نفسه ، والغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف والعرض ، فيزعجها ذلك ويحفزها على التشفي والانتقام ، والعفو عن الناس : التجاوز عن ذنوبهم وترك مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك ، والإحسان : هنا الإنعام والتفضل على غيرك على وجه لا مذمة فيه ولا قبح ، والفحشاء : الفعلة الشنيعة القبح التي يتعدى أثرها إلى غيرك كالزنا والغيبة ونحوهما ، وظلم النفس : هو الذنب الذي يكون مقصورا على الفاعل كشرب الخمر ونحوه ، وذكر الله عند الذنب يكون بتذكر وعده ووعيده ، وأمره ونهيه ، وعظمته وجلاله ، والإصرار : الشدّ من الصر ، ويراد به شرعا الاقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هى مثار الضرر ، ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله ورسوله من الفوز والفلاح فى وقعة بدر ، وبما حدث لهم حين عصوا الله وخالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فى وقعة أحد ، وكيف حل بهم البلاء ، ونزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.

نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وهو الربا ، مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب فى السعادة ، بل السعادة إنما تكون فى تقوى الله وامتثال أوامره ، وفى ذلك حث على بذل المال فى سبيل الله كالدفاع عن الملة ، وتنفير من البخل والشح والكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعة ، وشر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.

٦٤

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة بتأخير أجل الدّين الذي هو رأس المال ، وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون فى الجاهلية ، فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك ، لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته.

قال ابن جرير : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة فى إسلامكم بعد إذ هداكم الله ، كما كنتم تأكلونه فى جاهليتكم. وكان أكلهم ذلك فى جاهليتهم أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه ، فيقول له الذي عليه المال : أخّر دينك عنى وأزيدك على مالك ، فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة ، فنهاهم الله عز وجل فى إسلامهم عنه اه.

وقال الرازي : كان الرجل فى الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال الدائن زد فى المال حتى أزيد فى الأجل ، فربما جعله مائتين ، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها ، فهذا هو المراد من قوله تعالى : «أَضْعافاً مُضاعَفَةً» اه.

وربا الجاهلية هو ما يسمى فى عصرنا بالربا الفاحش وهو ربح مركب ، وهذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل ، ولا شىء منها فى العقد الأول ، كان يعطيه المائة بمائة وعشرة أو أكثر أو أقل ، وكأنهم كانوا يكتفون فى العقد الأول بالقليل من الربح ، فإذا حل الأجل ولم يقض الدين وهو فى قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف فى مقابلة الإنساء ، وهذا هو الربا النسيئة ، قال ابن عباس : إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم اه.

وعلى الجملة فالربا نوعان :

(١) ربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه فى الجاهلية ، وهو أن يؤخر دينه

٦٥

ويزيده فى المال ، وكلما أخره زاد فى المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة ، وفى الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج ، فهو يبذل الزيادة ليفتدى من أسر المطالبة ، ولا يزال كذلك يعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده ، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ، ويزيد مال المرابى من غير نفع يحصل منه لأخيه ، فيأكل مال أخيه بالباطل ، ويوقعه فى المشقة والضرر ، فمن رحمة الله وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرّم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده ، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ، ولم يجىء مثل هذا الوعيد فى كبيرة غيره ، ولهذا كان من أكبر الكبائر.

(٢) ربا الفضل كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير ، أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة وحفنة من التمر الرديء مع تراضى المتبايعين ، وحاجة كل منهما إلى ما أخذه.

ومثل هذا لا يدخل فى نهى القرآن ولا فى وعيده ، ولكنه ثبت بالسنة فقد

روى ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء ، ولا تشفوا بعضه على بعض إنى أخشى عليكم الرّماء ـ الربا ـ».

وهذه الآية هى أولى الآيات نزولا فى تحريم الربا ، وآيات البقرة نزلت بعد هذه ، بل هى آخر آيات الأحكام نزولا ، وقد يقول بعض المسلمين الآن : إنا نعيش فى عصر ليس فيه دول إسلامية قوية تقيم الإسلام وتستغنى عمن يخالفها فى أحكامها بل زمام العالم فى أيدى أمم مادية تقبض على الثروة ، وبقية الشعوب عيال عليها ، فمن جاراها فى طرق الكسب ـ والربا من أهم أركانه ـ أمكنه أن يعيش معها ، وإلا كان مستعبدا لها.

أفلا تقضى ضرورة كهذه على الشعوب الإسلامية التي تتعامل مع الأوربيين

٦٦

كالشعب المصري مثلا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها وتنميها ، وحتى لا يستنزف الأجنبى ثروتها وهى مادة حياتها؟

وجوابا عن هذا نقول :

إن المحرمات فى الإسلام ضربان :

(١) ضرب محرم لذاته لما فيه من الضرر ، ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر. والربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة وهو متفق على تحريمه ، فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض ولم يجد من يقرضه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه ، لأن له فيه ضرورة.

(٢) ضرب محرم لغيره وهو ربا الفضل لأنه ربما كان سببا فى ربا النسيئة ، وهو يباح للضرورة والحاجة أيضا.

والمسلم يعرف إن كان محتاجا إلى الربا ومضطرا إليه أم لا ، فإن كان محتاجا حل له تناوله ويكون مثله أكل الميتة وشرب الخمر ونحوهما ، وإلا لم يحل ذلك ، إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين ، وإن كان زيادة فى مال الرابى فهو فى الحقيقة نقصان ، لأن الفقراء الذين يشاهدونه يأخذ أموالهم بهذا التعامل يلعنونه ويدعون عليه ، وبذلك يسلب الله الخير من يديه ، إن عاجلا أو آجلا فى نفسه وماله ، وتتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه ، وغلظ كبده ، وقد ورد فى الأثر : إن آخذ الربا لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حج ولا صلاة.

ثم أكد النهى فقال :

(وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي واتقوا الله فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا ، ولا تكن قلوبكم قاسية على عباده من ذوى الحاجة والبؤس ، فتحملوهم من الدين مالا تحتمله طاقتهم ، وتستغلّوا عوزهم وحاجتهم ، فتشتطوا فى الربا حتى تخربوا بيوتهم وتجعلوهم من ذوى الفاقة والمتربة ـ لعل ذلك يكون سبب فلا حكم فى دنياكم ، فإن الرحمة وحسن المعونة يوجدان المحبة فى القلوب ، والمحبة أساس السعادة فى الدنيا والآخرة.

٦٧

ثم زاد النهى تأكيدا فقال :

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي وابتعدوا عن متابعة المرابين ، وتعاطى ما يتعاطون من أكل الربا الذي يفضى بكم إلى دخول النار التي أعدها الله للكافرين.

وفى هذا من شديد الزجر ما لا يخفى ؛ فان المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا أنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم عن المعاصي أتم ، ومن ثم روى عن أبى حنيفة رحمة الله أنه كان يقول : إن هذه أخوف آية فى القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه فى اجتناب محارمه.

ثم بالغ فى النهى وشدّد فيه أيما تشديد فقال :

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأطيعوا الله ورسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا ، وما أمرا به من الصدقة ، كى ترحموا فى الدنيا بصلاح حال المجتمع وفى الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم ، وقد ورد فى الأثر «الراحمون يرحمهم الرحمن» رواه أبو داود والترمذي.

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي وبادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ذنوبكم ويدخلكم جنة واسعة المدى أعدّها الله لمن اتقاه وامتثل أوامره ، وترك نواهيه ، فاعملوا الخيرات ، وتوبوا عن الآثام كالربا ونحوه ، وتصدقوا على ذوى البؤس والفاقة.

روى أن رسول هرقل ملك الروم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه : إنك كتبت تدعونى إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار [يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار فى جانب من العالم ، والليل فى ضد ذلك الجانب ، فكذا الجنة فى جهة العلو والنار فى جهة السفل].

وقال أبو مسلم : إن العرض هنا ما يعرض من الثمن فى مقابلة المبيع أي ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض ، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة خطرها ، وأنه لا يساويها شىء وإن عظم.

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت لهم وفى الآية دليل على أن الجنة مخلوقة الآن ،

٦٨

وأنها خارجة عن هذا العالم ، إذ أنها تدل على أن الجنة أعظم منه ، فلا يمكن أن يكون محيطا بها.

ثم وصف الله المتقين بجملة أوصاف كلها مناقب ومفاخر فقال :

(١) (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) أي الذين ينفقون فى السعة والضيق ، فينفقون فى كل حال بحسبها ، ولا يتركون الإنفاق بوجه.

وأثر عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب ، وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة ، وفى الحديث «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، وردوا السائل ولو بظلف محرق». وقد بدأ الله وصف المتقين بالإنفاق لأمرين :

(ا) أنه جاء فى مقابلة الربا الذي نهى عنه فى الآية السابقة ، إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج ، وإطعام له ما لا يستحقه ، والربا استغلال الغنى حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهى ضده.

ومن ثم لم يرد فى القرآن ذكر الربا إلا ذم وقبّح ، ومدحت معه الزكاة والصدقة ، اقرأ قوله : «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» وقوله «يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ».

(ب) أن الانفاق فى حالى اليسر والعسر أدل على التقوى ، لأن المال عزيز على النفس ، فبذله فى طرق الخير والمنافع العامة التي ترضى الله يشق عليها ، أما فى السراء فلما يحدثه السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل ، وأما فى الضراء فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا أن يعطى ، ولكنه مع هذه الحال لا يعدم وقتا يجد فيه ما ينفقه فى سبيل الله ولو قليلا.

وحب الخير هو الذي يحرك فى الإنسان داعية البذل لإنفاق هذا العفو القليل ، فإن لم توجد تلك الداعية بحسب الفطرة فالدين ينميها ويقويها ، إذ هو قد جاء لتعديل الأمزجة المعتلة ، وإصلاح الفطر المعوجة.

٦٩

وقد أرشدنا هدى الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمة فى ذاتها مهما ألحّ عليها الفقر وأن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة ، فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال ، ومدّ الأيدى إلى الناس ، لطلب الإحسان ، وإراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء ، لما فى ذلك من الذلة والصغار وهى ما لا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق فى قبضة الله وهو الذي يعطى ويمنع ، وقد جعل لكسب المال أوجها كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه ، وقد وردت أحاديث كثيرة فى الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال ، والبعد عن ذل السؤال.

إلا أن بذل القليل من الأفراد والجماعات إذا اجتمع صار كثيرا ، ومن ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النافعة للأمة فى الزراعة أو الصناعة أو فى بناء الملاجئ والمستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها ، وبذا تقدمت فى سائر فنون المدنية والحضارة.

ولذا حث الله على بذل الخير ولو قليلا بقوله : «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً».

ومن هذا ترى أن الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال ، كما أن الشح به علامة عدم التقوى ، والتقوى هى السبيل الموصل إلى الجنة.

فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد والجماعات ويكنزون فى صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئا مع هذا الشح البادي على وجوههم؟ فما هى إلا حركات وأعمال ، مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع فى نفوسهم ، إذ الصلاة التي يقبلها الله ، والصوم الذي يرضاه الله ، هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر ، وأىّ منكر أشد من الضنّ بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد.

٧٠

ولو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى ، ولكنا من ذوى العزة والمكانة بينها.

ولكنا صرنا إلى ما ترى ، عسى الله أن يغير من نفوس المسلمين ، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم باتباع أوامر كتابهم ، واجتناب نواهيه ، ففى ذلك السعادة لهم فى الدنيا والأخرى.

(٢) (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي والممسكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه ، ومن أجاب داعى الغيظ وتوجه بعزيمة إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ، ولا يكتفى بالحق ، بل يتجاوزه إلى البغي ، ومن ثم كان من التقوى كظمه ، وقد أثر عن عائشة رضى الله عنها أن خادما لها غاظها فقالت : لله درّ التقوى ، ما تركت لذى غيظ شفاء.

وقال عليه الصلاة والسلام «ما من جرعتين أحبّ إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ، ومن جرعة غيظ كظمها» وقال «ليس الشديد بالصّرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب».

وخلاصة ذلك ـ هم الذين يكظمون غيظهم عن الإمضاء والنفاذ ، ويردونه فى أجوافهم ، وهذا كقوله فى الآية الأخرى «وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ».

(٣) (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي والذين يتجاوزون عن ذنوب الناس ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك ، وتلك منزلة من ضبط النفس وملك زمامها قلّ من يصل إليها ، وهى أرقى من كظم الغيظ ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة.

أخرج الطبراني عن أبىّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من سره أن يشرف له البنيان ، وترفع له الدرجات ، فليعف عمن ظلمه ، ويعط من حرمه ، ويصل من قطعه».

وفى الآية إيماء إلى حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة ، وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره ، وإرشاد له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين

٧١

بما فعلوه بحمزة رضي الله عنه حتى قال حين رآه قد مثّل به : لأمثلنّ بسبعين منهم.

(٤) (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي والله يحب الذين يتفضلون على عباده البائسين ويواسونهم ببعض ما أنعم الله به عليهم شكرا له على جزيل نعمائه.

أخرج البيهقي أن جارية لعلى بن الحسين رضي الله عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يدها فشجه ، فرفع رأسه فقالت : إن الله يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها قد كظمت غيظى ، قالت (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال قد عفا الله عنك ، قالت (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.

والإحسان إلى غيرك إما بإيصال النفع إليه ، وهو الذي عناه الله بقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ويدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ، وإنفاق المال فى وجوه الخير والعبادات ، قال صلى الله عليه وسلم «السخىّ قريب من الله قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنة ، بعيد من الناس ، قريب من النار».

وإما بدفع الضر عنه إما فى الدنيا بألا يقابل الإساءة بإساءة أخرى وهو ما عناه الله بقوله (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) قال صلى الله عليه وسلم «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» وإما فى الآخرة بأن يعفو عماله عند الناس من التبعات والحقوق ، وهذا هو المراد بقوله (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ومن ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى غيرك.

وقد ذكر الله الجزاء على الإحسان بقوله (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إذ محبة الله للعبد عظم درجات الثواب.

(٥) (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي والذين إذا فعلوا من القبيح ما يتعدى أثره إلى غيره كالغيبة ونحوها ، أو فعلوا ذنبا يكون مقصورا عليهم كشرب الخمر ونحوه ـ ذكروا عند ذلك وعد الله ووعيده ،

٧٢

وعظمته وجلاله ، فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته ، راجين رحمته ، علما منهم أنه لا يغفر الذنوب سواه ، فهو الفعال لما يشاء بمقتضى حكمته وعلمه الواسع.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) جملة جاءت معترضة بين ما قبلها وما بعدها ، تصويبا لفعل التائبين ، وتطييبا لقلوبهم ، وبشارة لهم بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وإعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه. وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأن العبد إذا التجأ إليه ، وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن ذنوبه وإن جلّت ، فإن عفوه أجلّ وكرمه أعظم ، كما أن فيها تحريضا للعباد على التوبة وحثا لهم عليها ، وتحذيرا من اليأس والقنوط.

(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولم يقيموا على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام «لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار» يريد صلى الله عليه وسلم أن الصغيرة مع الإصرار كبيرة ، وقوله : وهم يعلمون أي بقبحه والنهى عنه والوعيد عليه ، والفائدة من ذكر هذا بيان أنه إذا لم يعلم بقبحه يعذر فى فعله.

والمؤمن المتقى لا يصر على الذنب وهو يعلم نهى الله عنه ووعيده عليه ، إذ يعلم أن الذنب فسوق وخروج عن نظام الفطرة السليمة ، واعتداء على حقوق الشريعة.

فالآية تومىء إلى أن المتقين الذين أعد الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا ، لأن ذكرهم لله يمنعهم أن يقيموا على الذنوب. إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر ، ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة ، وبادر إلى التوبة منها فكانت مذكّرة له بضعفه البشرى ، ودليلا على أن للغضب سلطانا عليه ـ تكون دون صغيرة يقترفها مستهينا بها مصرّا عليها مستأنسا بها ، فتزول من نفسه هيبة الشريعة ، ويتجرأ بعد ذلك على ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين ، وقد رووا حديث «ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة» وقد ضعفه المحدثون ،

٧٣

إلى أنه ليس المراد من الاستغفار الاستغفار باللسان ، وأنه كاف فى التوبة ، وأن تحريك اللسان بكلمة أستغفر الله مرة أو عدة مرات يرفع إثم الذنب ، بل استغفار فيه هو التوبة النصوح التي عرفت معناها فى قوله : «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» لا كون اللفظ كفارة للذنب.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي إن أولئك المتقين الذين وصفوا بما تقدم من الصفات ـ لهم أمن من العقاب ، ولهم ثواب عظيم عند ربهم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.

(وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي إن هذا الجزاء إنما هو على تلك الأعمال التي منها ما هو نافع للأمة كإنفاق المال فى وجوهه ، ومنها ما هو إصلاح لنفس العامل ، فهو أجر للعمل وجزاء عليه ، ويتفاوت الناس فى التقوى بحسب ذلك.

وخلاصة ذلك ـ نعم هذا الجزاء الذي ذكر من المغفرة والجنات أجرا للعاملين تلك الأعمال بدنية كانت كانفاق المال ونفسية كعدم الإضرار بغيرك على تفاوت فى ذلك.

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١))

تفسير المفردات

خلت : مضت ، السنن : واحدها سنة وهى الطريقة المعتبرة والسيرة المتبعة ، من قولهم سن الماء إذا والى صبه ، شبهت به السنة لتوالى أجزائها على نهج واحد ، بيان أي إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب ، هدى أي زيادة بصيرة

٧٤

وإرشاد إلى طريق الدين القويم ، والموعظة : ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة ، الوهن : الضعف فى العمل وفى الرأى وفى الأمر ، والحزن : ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب ، والقرح (بالضم والفتح) : عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسم ، وقيل هو بالفتح الأثر وبالضم الألم ، والأيام واحدها يوم : وهو الزمن المعروف والمراد بالأيام هنا أزمنة الفوز والظفر ، نداولها : نصرّفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء كما وقع ذلك فى يومى بدر وأحد ؛ وأصل المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدى إذا انتقل من واحد إلى آخر. والشهداء واحدهم شهيد : وهو قتيل المعركة ، وقيل واحدهم شاهد ، والتمحيص التخليص من كل عيب ، ومحّص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه ، ومحص الله التائبين من الذنوب طهرهم منها ، والمحق : النقصان ، ومنه المحاق لآخر الشهر ، وفى الأساس : محق الشيء محاه وذهب به.

المعنى الجملي

كان الكلام فى سابق الآيات فى قصة أحد وأهم أحداثها ، ثم ذكرهم بوقعة بدر وما كتب لهم فيها من النصر على قلة عددهم وعددهم.

وفى هذه الآيات وما بعدها يذكرهم بسنن الله فى خليقته ، وأن من سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة ، ومن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار ، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة ، كما وعد الله بذلك على ألسنة رسله. «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وقال : «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ»

الإيضاح

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي إن أمر البشر فى اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل ، وما يلابس ذلك من الحرب والطعان والنزال والملك

٧٥

والسيادة يجرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة العامة.

وقد جاء ذكر السنن الإلهية فى مواضع من الكتاب الكريم كقوله : «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» وقوله : فى سياق دعوة الإسلام «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً».

والمراد بذلك أن مشيئة الله فى خلقه تسير على سنن حكيمة من سار عليها ظفر وإن كان ملحدا أو وثنيا ، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا ، وعلى هذا فلا عجب أن ينهزم المسلمون فى وقعة أحد ، وأن يصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشجوا رأسه ، ويكسروا سنه ، ويردوه فى حفرة.

والمسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن فى الأمم وأجدر الناس بأن يسيروا على هديها ، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ثابوا إلى رشدهم يومئذ ورجعوا إلى الدفاع عن نبيهم وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم ولم ينالوا ما كانوا يقصدون.

والخلاصة ـ إن النظر فى أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم ، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم ، وإن سلكتم سبيل المكذبين فحالكم كحالهم.

وفى الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وإرشاد لهم ؛ إلى أنهم بين عاملى خوف ورجاء ، فهى على أنها بشارة لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه ، وساروا فى طريق الضالين ممن قبلهم ، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا.

وقد جرت سنة الله بأن للمشاهدة فى تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده ،

٧٦

إذ القول قد ينسى ويقل الاعتبار به. من قبل هذا أرشدهم إلى الاعتبار وقياس ما فى أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم ومن ثم قال :

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا فى الأرض وتأملوا فيما حل بالأمم قبلكم ليحصل لكم العلم الصحيح المبنى على المشاهدة والاختبار ، وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق والباطل فى الأمم السالفة ، وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل ، وانتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر والتقوى ، ويدخل فى ذلك اتباع ما أمر الله به من الاستعداد للحرب وإعداد العدة لقتال العدو كما أمر الله به فى قوله : «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ».

وجرى ذلك على سنن مستقيمة وأسباب مطردة لا تغيير فيها ولا تبديل.

والسير فى الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم ـ نعم العون على معرفة تلك السنن والاعتبار بها ، وقد نستفيد هذه الفائدة بالنظر فى كتب التاريخ التي دونها من ساروا فى الأرض ، ورأوا آثار الذين خلوا ، فتحصل لنا العظة والعبرة ، ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون فى الأرض بأنفسهم ، ويرون الآثار بأعينهم

تلك آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي هذا الذي تقدم بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة ، فالإرشاد عام للناس وحجة على المؤمن والكافر ، التقى منهم والفاجر.

وذلك يدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة بنحو قولهم لو كان محمد رسولا حقا لما غلب فى وقعة أحد ، فهذا الهدى والبيان يرشد إلى أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرسل كما هى حاكمة على سائر خلقه ، فما من قائد يخالفه جنده ، ويتركون حماية الثّغر الذي يؤتون من قبله ، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم ،

٧٧

والعدو مشرف عليهم ، إلا كان جيشه عرضة للانكسار إذا كر العدو عليه ـ قطع خط الرجعة ـ ولا سيما إذا كان بعد فشل وتنازع ، ومن ثم كان هذا البيان لجميع الناس ، كلّ على قدر استعداده للفهم وقبول الحجة.

وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة ، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق ، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع ، فيستقيمون ويسيرون على النهج السوىّ ، ويتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها ، فالمؤمن حقا هو الذي يهتدى بهدى الكتاب ويسترشد بمواعظه كما قال : «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» فالقرآن يهدينا فى مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نروز أنفسنا ؛ ونعرف كنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا ؛ فنسير على سنن الله فى طلبه وفى حفظه. وأن نعرف كذلك حال خصمنا ونضع الميزان بيننا وبينه. وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ولا تضعفوا عن القتال وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل فى يوم أحد. ولا تحزنوا على من فقد منكم فى هذا اليوم. وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون. فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته. بل ينصرون من ينصره ويقيمون العدل. فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام ، أو للطمع فيما فى أيدى الناس.

فهمة الكافر على قدر ما يرمى إليه من غرض خسيس ، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمى إلى إقامة صرح العدل فى الدنيا والسعادة الباقية فى الآخرة ـ إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره. وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته فى نظم الاجتماع ، حتى صار ذلك الايمان وصفا ثابتا لكم حاكما نفوسكم وأعمالكم.

وإنما نهى عن الحزن على ما فات ، لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئا من

٧٨

عزيمته ، وبالعكس صلته بما يحب من مال أو متاع أو صديق تكسبه قوة وتوجد فى نفسه سرورا ، والمراد من النهى عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل ولو تكلفا وخلاصة ذلك ـ الأمر بأخذ الأهبة وإعداد العدّة مع العزيمة الصادقة والحزم والتوكل على الله حتى يظفروا بما طلبوا ويستعيضوا مما خسروا.

وقوله وأنتم الأعلون تبشير بما يكون لهم فى المستقبل من النصر ، فإن من احترق الإيمان الصحيح فؤاده ، وتمكن من سويداء قلبه يكون على يقين من العاقبة ، بعد مراعاة السنن والأسباب المطردة للظفر والفلاح.

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي إن كان السلاح قد عضكم وعمل فيكم يوم أحد فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم فى ذلك اليوم ، فقد قتل منهم مثل من قتل منكم فلم يكونوا غالبين.

والخلاصة ـ إنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد ، وليس لكم العذر فيه لأجل أن مسكم قرح ، فان أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم وهم على باطلهم لم يفتروا فى الحرب ولم يهنوا ، فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة ، وتمسككم بالحق.

(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي إن مداولة الأيام سنة من سنن الله فى المجتمع البشرى ، فمرة تكون الدولة للمبطل ، وأخرى للمحق ، ولكن العاقبة دائما لمن اتبع الحق.

وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح ورعاها حق رعايتها كالاتفاق وعدم التنازع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة ، وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة.

فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام حتى تظفروا وتفوزوا ، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفا لعزائمكم ، فإن الدنيا دول.

فيوما لنا ويوما علينا

ويوما نساء ويوما نسر

٧٩

ومن أمثال العرب : الحرب سجال ، روى أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ، ثم قال أين ابن أبى كبشة؟ ـ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وأبو كبشة زوج حليمة السعدية وهو أبوه من الرضاع ـ أين ابن أبى قحافة؟ ـ أبو بكر ـ أين ابن الخطاب؟ فقال؟ عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهأنذا عمر ، فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر رضي الله عنه : لا سواء ، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار ، فقال إنكم تزعمون ذلك ، فقد خبنا إذن وخسرنا.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي وتلك الأيام نداولها بين الناس ، ليقوم بذلك العدل ، ويستقر النظام ، ويعلم الناظر فى السنن العامة ، والباحث فى الحكم الإلهية أنه لا محاباة فى هذه المداولة ، وليعلم الله الذين آمنوا منكم ، لأن الجهاد الاجتماعى الذي يدال به قوم على قوم مما يطهر النفوس ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.

والمراد من قوله (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) أي وليظهر علمه بذلك للناس بظهور ما يعلم لهم ، إذ علم الله بالأشياء ثابت فى الأزل ، فإذا وقعت حصل تغير فى ذلك المعلوم ، فصار حالا بعد أن كان مستقبلا ، فهو كقوله : «لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» أي ليعلم الناس ذلك ويميزوه.

الخلاصة ـ إن المراد من مثل هذه العبارة (لِيَعْلَمَ) ـ ليثبت ويتحقق صدق إيمان الذين آمنوا ، لأنه متى ثبت وتحقق كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة ، إذ علم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع ، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.

(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة والقتل فى سبيل الله. ذاك أن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر ، وكانوا يتمنّون لقاء العدو ، وأن يكون لهم يوم كذلك اليوم يقاتلون فيه ويلتمسون الشهادة.

٨٠