تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))

تفسير المفردات

الأمة : الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ، ووحدة يكونون بها كالأعضاء فى بنية الشخص ، والخير : ما فيه صلاح الناس فى الدين والدنيا ، والمعروف : ما استحسنه الشرع والعقل ، والمنكر ضده ، وابيضاض الوجوه : عبارة عن المسرة ، واسودادها : عبارة عن المساءة ، وعلى هذا جاء قوله : «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ». بالحق : أي بالأمر الذي له ثبوت وتحقق ولا مجال فيه للشبهات ، والظلم لغة وعرفا : وضع الشيء فى غير موضعه ، إما بنقصان أو بزيادة ، وإما بعدول عن وقته أو مكانه.

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس والأرجاس ، بالعمل بتقوى الله ، والمحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات ، والاعتصام بحبله المتين باتباع كتابه ، والجري على سنة رسوله ، إذا اختلفت الأهواء ، وتضاربت الآراء.

أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة ، وحثهم على اتباع أوامر الشريعة ، وترك نواهيها ، تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام ، والمحافظة على ما فيها من الشرائع والنواميس ، وأن يكون فى نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها ، ما يكون لحب الفرد لمصلحته ، وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم فى طلاب الخير لهم جميعا ، حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد

٢١

فى الحديث «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» رواه مسلم.

وروى البخاري وغيره حديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

والحفاظ لوحدة الأمة ، ومناط بقاء جامعتها ـ أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

الإيضاح

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

والمخاطب بهذا هم المؤمنون كافة فهم مكلفون بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة ، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل فى إيجادها ، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة ، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب.

وقد كان المسلمون فى الصدر الأول على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة ، فقد خطب عمر على المنبر ، وكان مما قال : إذا رأيتم فىّ اعوجاجا فقوّموه ، فقام أحد رعاة الإبل وقال : لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا.

وكان الخاصة من الصحابة متكاتفين فى أداء هذا الواجب ، يشعر كل منهم بما يشعر الآخر من الحاجة إلى نشر لواء الإسلام وحفظه ، ومقاومة كل من يمس شيئا من عقائده وآدابه ، وأحكامه ومصالح أهله ، وكان سائر المسلمين تبعا لهم.

ويجب فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط ، ليؤدى وظيفته خير الأداء ، ويكون مثلا صالحا يحتذى به فى علمه وعمله :

(١) أن يكون عالما بالقرآن والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضى الله عنهم.

٢٢

(٢) أن يكون عالما بحال من توجه إليهم الدعوة فى شئونهم واستعدادهم وطباعهم وأخلاقهم ، أي معرفة أحوالهم الاجتماعية.

(٣) أن يكون عالما بلغة الأمة التي يراد دعوتها ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة بتعلم العبرية لحاجته إلى محاورة اليهود الذين كانوا يجاورونه ، ومعرفة حقيقة حالهم.

(٤) معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم ، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من باطل ، فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه ، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه.

وعلى الجملة فلا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام ، وحكمة التشريع وفقهه ، وهم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله : «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».

وهؤلاء يقومون بتطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد فى كل زمان ومكان على مقدار علمهم فى المساجد والمعابد والمنتديات العامة ، وفى المحافل عند سنوح الفرصة.

فإذا هم فعلوا ذلك كثر فى الأمة الخير ، وندر فيها وقوع الشر ، وائتلفت قلوب أهليها ، وتواصوا بالحق ، وتواصوا بالصبر ، وسعدوا فى دنياهم وآخرتهم.

وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها ، واتفاق أهوائها ، إذ لا مطمح لها إلا رفعة شأن دينها ، وعزة أبنائها ، وسيادتها العالم كله.

ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدّته ، وكمّلوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغى السعادة والرقىّ ، وتختلقوا بفاضل الأخلاق ، وحميد الصفات ، حتى يكونوا مثلا عليا تحتذى ، ويشار إليهم بالبنان وإن ما أودع فى ديننا من هذا ، وما خلّفه لنا السلف الصالح من الكنوز والثروة العلمية ، فيه غنية

٢٣

لمن يريد الخير والفلاح ، وقد روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن خير الناس؟ فقال : آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم لله ، وأوصلهم للرحم».

وعنه أنه قال : «والذي نفسى بيده لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ، ثم لتدعنّه فلا يستجاب لكم».

وعن علىّ كرم الله وجهه : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، ومن غضب لله غضب الله له.

وبعد أن أمر سبحانه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، بيّن ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية ، الآمرة الناهية ، من وحدة المقصد ، واتحاد الغرض ، لأن الذين سبقوهم من الأمم لم يفلحوا لاختلاف نزعاتهم ، وتفرق أهوائهم ، لأن كلا منهم يذهب إلى تأييد رأيه ، وإرضاء هواه.

أما المتفقون فى القصد ، فاختلافهم فى الرأى لا يضيرهم ، بل ينفعهم إذ هو أمر طبيعى لا بد منه لتمحيصه ، وتبين وجوه الصواب فيه ، ومن ثم قال تعالى :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي ولا تكونوا كأهل الكتاب الذين تفرقوا فى الدين وكانوا شيعا ، تذهب كل شيعة منها مذهبا يخالف مذهب الآخر ، وتنصر مذهبها وتدعو إليه ، وتخطّىء ما سواه ، ولذا تعادوا واقتتلوا.

ولو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وتعتصم بحبل الله وتتجه إلى غاية واحدة لما تفرقوا ولا اختلفوا فيه ، ولما تعددت مذاهبهم فى أصوله وفروعه ، وما قاتل بعضهم بعضا ـ فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم.

وبعدئذ ذكر عاقبة المختلفين وعظيم نكالهم فقال :

(وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا ، وخسران الآخرة ، أما فى الدنيا فلأن بأسهم يكون بينهم شديدا ، فيشقى بعضهم ببعض ، ويبتلون بالأمم التي تطمع فى الضعفاء ، وتذيقهم الخزي والنكال ، وأما فى الآخرة فعذاب الله أشد وأبقى.

٢٤

وهذا الوعيد فى الآية يقابل الوعد فى الآية قبلها وهو قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيرى الدنيا والآخرة.

ثم ذكر زمان ذلك العذاب فقال :

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أي واذكروا يوم تبيض وجوه وتسر لما تعلم من حسن العاقبة ، وتسودّ وجوه لما ترى من سوء العاقبة ، وما يحل بها من النكال والوبال.

ونحو الآية قوله : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ» وقوله : «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» وقوله : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» وفى الحديث «إن أمتى يحشرون غرّا محجلين من آثار الوضوء».

واستعمال البياض فى السرور ، والسواد فى الحزن عرف شائع لدى كل ناطق بالضاد ، ولا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه كما قال شاعرهم :

فتعجبوا لسواد وجه الكاذب

والخلاصة ـ إن هؤلاء المختلفين المتفرقين لهم عذاب عظيم فى هذا اليوم كما تظاهرت على ذلك الآيات والأحاديث ، كما يكون لهم مثل ذلك فى الدنيا ، إذ هم لاختلاف مقاصدهم لا يتناصرون ولا يتعاونون ، ولا يأبهون بالأعمال التي فيها شرف الملة ، وعز الأمة ، فتسودّ وجوههم بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم ، وعواقب تفرقهم واختلافهم ، بقهر الغاصب لهم ، وانتزاعه السلطة من أيديهم ، والتاريخ والمشاهدة شاهدا صدق على هذا.

أما المتفقون الذين اعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة لخير الأمة وعزها ، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر ، وناصرا له ، فأولئك تبيض وجوههم وتتلألأ بهجة وسرورا حين تظهر لهم آثار اتفاقهم واعتصامهم ، بوجود السلطان والعزة والشرف ، وارتفاع المكانة بين الأمم.

ثم فصل سبحانه أحوال الفريقين فقال :

٢٥

(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ؟) أي فأما الذين تفرقوا واختلفوا فاسودت وجوههم فيقال لهم هذا القول فى الدنيا والآخرة.

أما فى الدنيا فلا بد أن يوجد فى الناس من يقول للأمة التي وقع فيها هذا الاختلاف ـ مثل هذا القول تغليظا لها لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين ، وأما فى الآخرة فيوبخهم الله تعالى بمثل هذا السؤال.

وقد جرى عرف القرآن أن يعدّ المتفرقين فى الدين من الكفار والمشركين كما جاء فى قوله : «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» وقوله : «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ».

كذلك يعد الخروج عن مقاصد الدين الحقيقية من الكفر ، لأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ، وهو ذو شعب كثيرة من أجلّها تحرى العدل ، واجتناب الظلم ، فمن استرسل فى الظلم كان كافرا كما قال تعالى : «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

وكذلك من ترك الاتحاد والوفاق والاعتصام بحبل الدين كان من الكافرين بعد الإيمان.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين ابيضت وجوههم باتحاد الكلمة ، وعدم التفرق فيكونون فى الدنيا خالدين فى النعمة ماداموا على تلك الحال ، وخلودهم فى الرحمة فى الآخرة أظهر.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي هذه الآيات نتلوها عليك مقررة ما هو الحق الذي لا مجال للشبهة فيه ، فلا عذر لمن ذهب فى الدين مذاهب شتى ، واتبع سنن السابقين ، وجعل القرآن عضين.

فعلينا أن نستمسك بما به أمر ووعد عليه بالفوز والنجاح ، ونترك ما عنه نهى

٢٦

وأوعد عليه بالعذاب الأليم ، حتى نكون أمة متفقة المقاصد ، متحدة فى الدين فنجمع بين سعادتى الدنيا والآخرة.

(وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) أي إن كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه فإنما يريد به هدايتهم إلى ما يكمل فطرتهم ، ويتم به نظام جماعتهم ، فإذا هم فسقوا عن أمره حل بهم البلاء وكانوا هم الظالمين لأنفسهم ، بتفرقهم واختلافهم ، إلى نحو ذلك من الذنوب التي تفسد نظم المجتمع وتجعل أهله فى شقاء.

ولا يحل عذاب بأمة إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن الصراط المستقيم كما قال : «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ».

ثم ذكر ما هو كالبرهان لنفى الظلم عنه تعالى فقال :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إنه تعالى مالك العباد والمتصرف فى شئونهم بحسب سننه الحكيمة التي لا تغيير فيها ولا تبديل كما قال : «سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً» وليس من أسباب ملكه شىء ناقص يحتاج إلى تمام فيتممه بظلم غيره ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ولأن الظلم ينافى الحكمة والكمال فى النظام وفى التشريع.

ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال إنه ظلمها ، ومن نقص امرأ حقه فقد ظلمه ، قال تعالى : «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً».

وعلى الجملة ـ فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه هو ما ينافى مصلحة العباد وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة ، وبعبارة أخرى هو ما يخالف النظام والإحكام.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ

٢٧

يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))

تفسير المفردات

كنتم : أي وجدتم وخلقتم ، أخرجت : أي أظهرت حتى تميزت وعرفت ، والأذى : الضر اليسير ، يولوكم الأدبار : أي ينهرموا ، والذلة هى الذل الذي يحدث فى النفوس من فقد السلطة ، وضربها عليهم هو إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم ، كما يكون من ضرب السكة بما ينقش فيها ، وثقفوا وجدوا ، والحبل : العهد ، وباءوا : أي لبثوا وحلوا فيه ، من المباءة وهو المكان ، ومنه تبوأ فلان منزل كذا ، وبوأته إياه ، والاعتداء : تجاوز الحد.

المعنى الجملي

بعد أن أمر عز اسمه عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله ، وذكرهم بنعمته عليهم ، بتأليف قلوبهم بأخوّة الإسلام ، وحذّرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب فى التمرد والعصيان ، وتوعد على ذلك بالعذاب الأليم ، واستطرد بين ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسودّ ، وبذكر شىء من أحوال الآخرة.

أردف ذلك ذكر فضل المتآخين فى دينه ، المعتصمين بحبله ، ليكون هذا باعثا لهم على الانقياد والطاعة ، إذ كونهم خير الأمم مما يقوّى داغيتهم فى ألا يفوّتوا على أنفسهم هذه المزية ، وإنما يكون ذلك بالمحافظة على اتباع الأوامر وترك النواهي.

٢٨

الإيضاح

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي أنتم خير أمة فى الوجود الآن ، لأنكم تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون إيمانا صادقا يظهر أثره فى نفوسكم ، فيزعكم عن الشر ، ويصرفكم إلى الخير ، وغيركم من الأمم قد غلب عليهم الشر والفساد ، فلا يأمرون بمعروف ، ولا ينهون عن منكر ، ولا يؤمنون إيمانا صحيحا.

وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أوّلا ، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل ، فهم الذين كانوا أعداء ، فألف بين قلوبهم ، واعتصموا بحبل الله جميعا ، وكانوا يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخاف ضعيفهم قويّهم ، ولا يهاب صغيرهم كبيرهم ، وملك الإيمان قلوبهم ومشاعرهم ، فكانوا مسخرين لأغراضه فى جميع أحوالهم.

وهذا الإيمان هو الذي قال الله فى أهله «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» وقال فيهم أيضا «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

وما فتئت هذه الأمة خير الأمم حتى تركت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وما تركتهما إلا باستبداد الملوك والأمراء من بنى أمية ومن حذا حذوهم.

وأول من اجترأ منهم على إعلان هذه المعصية عبد الملك بن مروان حين قال على المنبر : من قال لى اتق الله ضربت عنقه وما زال الشر يزداد ، والأمر يتفاقم حتى سلبت هذه الأمة أفضل مالها من مزية فى دينها ودنياها بعد الإيمان ، وهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

٢٩

ومما سلف تعلم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو سبب الفضيلة ، كما تقول : محمد كريم ، يطعم الناس ويكسوهم ، ويعنى بشئونهم.

وهذه الصفات وإن شاركتها فيها سائر الأمم ، فهى لم تكن فيها على الوجه الذي لهذه الأمة ، فالأمر بالمعروف كان فيها على آكد وجوهه ، وهو القتال إذا دعت إليه الحاجة ، وقد يحصل بالقلب واللسان ، ولكن أقواه ما كان بالقتال لأنه إلقاء للنفس فى خطر الهلاك.

وأعظم المعروفات الدين الحق ، والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات الكفر بالله ، ومن كان فرض الجهاد فى الدين يحمّل الإنسان أعظم المضار لإيصال غيره إلى أعظم المنافع ، وتخليصه من أعظم الشرور ، لهذا كان عبادة من العبادات ، بل كان أجلّها وأعظمها ، وهو فى ديننا أقوى منه فى سائر الأديان.

لا جرم كان ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وهذا ما عناه ابن عباس بقوله فى تفسير هذه الآية أي تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويقروا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا الله أعظم المعروف ، والتكذيب أنكر المنكرات.

والخلاصة ـ إن هذه الخيرية لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة ، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية ، ومن ثم أكد الأمر بهذه الفريضة فى آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير فى الكتب السابقة.

وقدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله فى الذكر ، مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات ، لأنهما سياج الإيمان وحفاظه ، فكان تقديمهما فى الذكر موافقا للمعهود عند الناس فى جعل سياج كل شىء مقدما عليه.

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولو آمنوا إيمانا صحيحا يستولى على النفوس ، ويملك أزمة القلوب ، فيكون مصدر الفضائل والأخلاق الحسنة ، كما تؤمنون ـ لكان ذلك خيرا لهم مما يدّعونه من إيمان لا يزع النفوس عن

٣٠

الشرور ، ولا يبعدها عن الرذائل ، إذ هو لم يؤت ثمرات الإيمان الصحيح الذي يحبه الله ورسوله ، ولا كان أثرا من آثاره الأمر بالمعروف ولا النهى عن المنكر.

وبهذا تعلم أن الإيمان المنفي عنهم إيمان خاص له تلك الآثار التي تقدمت ، لا الإيمان الذي يدعيه كل من له دين وكتاب ، كما أنه إنما نفاه عن أكثر أفراد الأمة ، وأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن حقيقة الدين ، ولم يبق عندهم إلا بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة ـ لا عن جميعها ، إذ لا تخلو أمة ذات دين سماوى من هذا الإيمان ، ومن ثمّ قال :

(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي منهم المؤمنون المخلصون فى عقائدهم وأعمالهم كعبد الله بن سلام ورهطه من اليهود ، والنجاشي ورهطه من النصارى ، وأكثرهم فاسقون عن دينهم متمردون فى الكفر.

وما من دين إلا يوجد فيه الغالون والمعتدلون والمفرّطون المائلون إلى الفسوق والعصيان.

ويكثر الاستمساك بالدين فى أوائل ظهوره ، كما يكثر الفسق بعد طول الأمد عليه ، كما قال تعالى : «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ».

ولم يحكم الدين على أمة حكما عاما بالفسق والضلال ، بل تارة يعبر بالكثير ، وأخرى بالأكثر كقوله فى بنى إسرائيل «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً» وقوله فى النصارى واليهود «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ».

وعلى الجملة فالقرآن إذا عرض لوصف الأمم وبيان عقائدها وأخلاقها ، وزن ذلك بميزان دقيق يتحرى فيه ذكر الحقيقة مجردة عن كل مغالاة أو مبالغة بما لم يعهد مثله فى كتاب آخر.

٣١

فلو تصفحنا الأحكام التي حكم بها على أهل الكتاب ، وعرضناها على علمائهم وفلا سفتهم ومؤرخيهم لقالوا : إنها الحق الصّراح.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي إن هؤلاء الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر بكم بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح ، والطعن فى الدين ، وإلقاء الشبهات وتحريف النصوص ، والخوض فى النبي صلى الله عليه وسلم.

(وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي وإن يقابلوكم فى ميدان القتال ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشىء ، والمنهزم من شأنه أن يحوّل ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره فى هربه منه ، فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه.

(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ثم إنهم لا ينصرون عليكم أبدا ماداموا على فسقهم ، ودمتم على خيريتكم ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.

وفى الآية ثلاث بشارات من أخبار الغيب تحققت كلها ، وقد صدق الله وعده.

ومما سبق تعلم أن هذا الحكم إنما يثبت لهم إذا حافظوا على نصر الله بنصر دينه كما قال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» وكما قال فى وصف المؤمنين المجاهدين «الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ».

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي إنهم ألزموا الذلة فلا خلاص لهم منها ، فحالهم معكم أنهم أذلاء مهضومو الحقوق رغم أنوفهم ، إلا بعهد من الله وهو ما قررته الشريعة إذا دخلوا فى حكمها من المساواة فى الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء ، وعهد من الناس ، وهو ما تقتضيه المشاركة فى المعيشة ، من احتياجهم إليكم واحتياجكم إليهم فى بعض الأمور ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن معاملتهم ويقترض منهم ، وكذلك الخلفاء الراشدون.

والخلاصة ـ إن هؤلاء لا عزة لهم فى أنفسهم ، لأن السلطان والملك قد فقدا

٣٢

منهم. وإنما تأتيهم العزة من غيرهم بهذين العهدين : العهد الذي قرره الله ، والعهد الذي تواطأ عليه الناس.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي وصاروا مستحقين غضب الله مستوجبين سخطه ، وأحاطت بهم المسكنة والصّغار ، فهم تابعون لغيرهم يؤدون ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين.

وهذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم فى كل بقاع الأرض.

وقد ارتفع الذل عنهم فى بلاد الإسلام بحبل من الله ، وهو ما ذكرناه فيما سلف من وجوب معاملتهم بالمساواة واحترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم والتزام حمايتهم والذّود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين ، وبحبل من الناس كما تقدم بيانه.

وأما ارتفاع المسكنة بأن يكون لهم ملك وسلطان يوما ما ، فالقرآن ينفيه عنهم ، لأنه لم يستثن من ذلك شيئا ، كما استثنى فى الذلة ، فاقتضى بقاء ذلك عليهم إلى الأبد لكنهم يقولون إنهم مبشرون بظهور مسيح (مسيا) فيهم ؛ ومعناه ذو الملك والشريعة ، والنصارى يقولون : إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، والمراد بالملك الملك الروحاني.

والخلاصة : إنهم متفرقون فى أقطار الأرض على قلتم ، منصرفون عن فنون الحرب وأعمالها ، بعيدون عن الزراعة ومتعلقاتها ، لعنايتهم بجمع المال من أيسر سبله ، وأكثرها نماء ، وأقلها تعبا وعناء ، وهو الربا.

وقد ذكر الله سبب ذلك وعلته فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، واستحقاقهم للغضب الإلهى بسبب كفرهم ، وقتلهم النبيين بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم.

وفى النص على أن ذلك بغير حق مع أنه لن يكون إلا كذلك تشنيع عليهم ،

٣٣

وإثبات لأن ذلك حدث عن عمد لا عن خطا ، ثم أشار إلى سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال :

(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي إنه ما جرأهم على ذلك إلا سبق المعاصي ، واعتداؤهم على حدود الله ، والاستمرار على الصغائر يفضى إلى الوقوع فى الكبائر.

فمن جعلها ديدنا له واتخذها عادة وصل به ذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء المرشدين وقتل الأنبياء ، وإن كان لم يصدر من اليهود الذين كانوا فى عصر التنزيل ، بل كان من أسلافهم ، لكنهم لما كانوا راضين به مصوّبين له نسب إليهم ، إذ صار خلقا لهم يتوارثه الخلف عن السلف ، والأبناء عن الآباء.

والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيها ، وإن ظهر بعض آثاره فى زمن دون آخر.

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))

تفسير المفردات

يقال فلان وفلان سواء : أي متساويان ، ويستعمل للواحد والمثنى والجمع فيقال هما سواء ، وهم سواء ، وقائمة : أي مستقيمة عادلة ، من قولك أقمت العود فقام : أي استقام ، والتلاوة القراءة وأصلها الإتباع ، فكأنها إتباع اللفظ اللفظ ، وآيات الله : هى القرآن والآناء : الساعات ، واحدها أنى كعصا أو أنى كظبى أو إنو كجرو ، ويسجدون : أي يصلون ، والمسارعة فى الخير : فرط الرغبة فيه ، فلن يكفروه : أي يمنعوا ثوابه.

٣٤

المعنى الجملي

بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات ، وقبيح الأعمال وذكر الجزاء الذي استحقوه بسوء عملهم ، أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة ، بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال وجميل الصفات.

الإيضاح

(لَيْسُوا سَواءً) أي ليس أهل الكتاب متساوين فى تلك الصفات القبيحة ، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ، وهذه الجملة كالتأ كيد لتلك.

وبعد أن وصف الفاسقين وذكر سوء أعمالهم ـ وصف المؤمنين ومدحهم بثمانية أوصاف كل منها منقبة ومفخرة يستحق فاعلها الثواب عليها :

١ ـ (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي منهم جماعة مستقيمة على الحق ، متبعة للعدل ، لا تظلم أحدا ، ولا تخالف أمر الدين ، وكان من تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة ، إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين وتستغنى به عن ذكر الآخر كما قال الشاعر :

دعانى إليها القلب إنى لأمرها

مطيع فما أدرى أرشد طلابها

يريد أم غىّ.

وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلة لإبهامه.

والمراد بهذه الأمة جماعة من اليهود أسلموا كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم كما رواه ابن جرير عن ابن عباس ، وقال فى تفسير الآية : الأمة القائمة أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.

وروى عن قتادة أنه كان يقول فى الآية : ليس كل القوم هلك ، قد كان لله فيهم بقية.

٣٥

وهذه الآية حجة على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء ، وأن من أخذه مذعنا ، وعمل به مخلصا ، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من الصالحين.

كما أن فيها استمالة لأهل الكتاب ، وتقديرا للعدل الإلهى ، وقطعا لاحتجاج من يعرفون الإيمان والإخلاص ، إذ لو لا هذا النص لكان لهم أن يقولوا : لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين.

واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافى ضياع بعض كتبهم ، وتحريف بعضهم لما فى أيديهم منها ، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث ويعمل بما علم ، ويستمسك به مخلصا فيه ـ يقال إنه قائم بالسنة عامل بالحديث.

٢ ، ٣ ـ (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون متهجدين ، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع والخشوع.

٤ ، ٥ ـ (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يؤمنون إيمان إذعان بهما على الوجه المقبول عند الله ، ومن ثمرات ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم ، لا إيمانا لا حظّ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى ، كما هو حال سائر اليهود ، إذ يؤمنون بالله واليوم الآخر ، لكنه إيمان هو والعدم سنواء ، لأنهم يقولون عزيز ابن الله ، ويكفرون ببعض الرسل ، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته.

ولما كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته ، والخير للعمل به ، وكان أفضل الأعمال الصلاة ، وأفضل الأذكار ذكر الله ، وأفضل العلوم معرفة المبدإ والمعاد ـ وصفهم الله بقوله : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال ، وبقوله : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة فى قلوبهم.

٦ ـ (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي إنهم بعد أن كملوا أنفسهم علما وعملا كما تقدم ، يسعون فى تكميل غيرهم إما بإرشادهم إلى ما ينبغى بأمرهم بالمعروف ، أو بمنعهم عما لا ينبغى بالنهى عن المنكر.

٣٦

وفى هذا تعريض باليهود المداهنين الصادّين عن سبيل الله.

٧ ـ (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علما منهم بجلالة موقعها ، وحسن عاقبتها ، وإنما يتباطأ الذين فى قلوبهم مرض ، كما وصف الله المنافقين بقوله : «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ».

وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية ، وفى ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن ذلك.

وعبر بالسرعة ولم يعبر بالعجلة ، لأن الأولى التقدم فيما ينبغى تقديمه وهى محمودة ، وضدها الإبطاء ، والثانية التقدم فيما لا ينبغى أن يتقدم فيه ، ومن ثم قال عليه السلام «العجلة من الشيطان ، والتأنّى من الرحمن» وضدها : الأناة ، وهى محمودة.

٨ ـ (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وهؤلاء الذين اتصفوا بجليل الصفات من الذين صلحت أحوالهم ، وحسنت أعمالهم ، فرضيهم ربهم ، وفى هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره.

والوصف بالصلاح هو غاية المدح ، ونهاية الشرف والفضل ، فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس وذى الكفل فقال : «وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» وقال حكاية عن سليمان : «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ».

ولأنه ضد الفساد ، وهو ما لا ينبغى فى العقائد والأفعال ، فهو حصول ما ينبغي فى كل منهما ، وذلك منتهى الكمال ، ورفعة القدر ، وعلوّ الشأن.

(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي وما يفعلوا من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ولن يستر عنهم كأنه غير موجود.

ولما سمى الله إثابته للمحسنين شكرا فى قوله : «فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً»

٣٧

وسمى نفسه شاكرا فى قوله : «فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» حسن أن يعبر عن عدم الإثابة بالكفر.

وهذه الجملة جاءت ردا على اليهود الذين قالوا لمن أسلم منهم : أنتم خسرتم بسبب هذا الإيمان ، وإشارة إلى أنهم فازوا بالسعادة العظمى ، والدرجات العليا.

وفيها تعظيم لهم ليزيل من صدورهم أثر كلام أولئك الأوغاد.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) فهو يجزى العاملين بحسب ما يعلم من أحوالهم ، وما تنطوى عليه سرائرهم.

فمن كان إيمانه صحيحا واتقى الله فاز بالسعادة.

وهذا كالدليل على ما قبله ، لأن عدم الإثابة إما للسهو والنسيان ، وإما للجهل ، وذلك ممتنع فى حقه ، لأنه عليم بكل شىء ، وإما للعجز أو البخل أو الحاجة ، وكل ذلك محال عليه ، لأنه خالق جميع الكائنات ، وهو القادر على كل شىء.

ولما انتفى كل هذا كان المنع من الجزاء محالا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))

تفسير المفردات

لن تغنى : أي لن تجزىء وتنفع ، ومثل الشيء : مثله وشبهه ، والصرّ (بالكسر) والصرة : البرد الشديد.

٣٨

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال الكافرين ، وما يحيق بهم من العقاب ، وأحوال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب ، جامعا بين الزجر والترغيب ، والوعد والوعيد ، ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة ، والمفاخر التي عددها لهم ـ أتبع ذلك بوعيد الكفار وتيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه ، ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه فى هذه الحياة الدنيا ، فى لذاتهم وجاههم وتأييد كلمتهم لا يفيدهم شيئا ، كزرع أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته ، فلم يستفد أصحابه منه شيئا.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي إن الذين كفروا من أهل الكتاب ومشركى مكة وغيرهم ممن كانوا يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر ، ويقولون : لو كان محمد على الحق ما تركه ربه فى هذا الفقر الشديد ، ويتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد كما حكى الله عنهم : «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» لن تنفعهم هذه الأموال والأولاد يوم القيامة ، وافتصر على ذكرهما ، لأنهما من أعظم النعم ، ومن كان يرتع فى بحبوحة هذه النعم ، فقلّما يوجه نظره إلى طلب الحق ، أو يصغى إلى الداعي إليه ، ومن ثم تراه يتخبط فى ظلام دامس حتى يتردى فى الهاوية ، ويقع فى المهالك ، ولا ينفعه مال ولا ولد «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ» ، يوم يوضع الميزان ، ويحاسب كل امرئ على النقير والقطمير.

ونحو الآية قوله : «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» وقوله : «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ» وقوله : «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى».

٣٩

(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الملازمون للنار لا ينفكون عنها ، لأن ظلمة أرواحهم ، وفساد عقائدهم ، وسوء أعمالهم ، اقتضت خلودهم فى تلك الهاوية المظلمة المستعرة التي وقودها الناس والحجارة ، قد أعدت لكل من جحد بآيات ربه ، وأعرض عن دعوة أنبيائه ورسله ، ولم يصغ إلا لداعى الهوى والشهوات.

وبعد أن أبان أن أموالهم لا تغنى عنهم شيئا ، ذكر أن ما ينفقونه من المال فى سبل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به ، وضرب لذلك مثلا فقال :

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) أي إن ما ينفقونه فى اللذات ، ونشر الصيت ، واكتساب الشهرة ، وتأييد الكلمة ، فيصدهم عن سبيل الله ، ويفسد عقولهم وأخلاقهم التي هى عماد المنافع ، كمثل ريح باردة أصابت حرث قوم فأهلكته.

وخلاصة ذلك ـ أن حالهم فيما ينفقون وإن كان فى الخير كحال الريح الشديدة البرد التي تهلك الزرع ، فهؤلاء لا يستفيدون من نفقتهم شيئا ، كما أن أصحاب ذلك الزرع كذلك.

فهم إذا أنفقوا أموالهم فى بناء الحصون والقلاع لصد العدو ، وإقامة القناطر لحفظ المياه وأمن الطريق ، وفى الإحسان إلى الضعفاء واليتامى وذوى الحاجات ، ورجوا من ذلك الثواب الجزيل ، ثم قدموا إلى الآخرة ورأوا كفرهم قد أبطل آثار ذلك الخير ، كانوا كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا ، فأصابته ريح فأحرقته ، فلا يبقى له إلا الحسرة والندامة ، ونحو الآية قوله : «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» وقوله : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً».

وجماع هذا كله قوله : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

٤٠