تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

الآخر ، لآيات : لأدلة على وجود الله وقدرته ، الألباب واحدها لب : وهو العقل ، قياما وقعودا واحدهما قائم وقاعد ، باطلا أي عبثا لا فائدة منه ، سبحانك أي تنزيها لك عما لا يليق بك ، قنا عذاب النار : أي اجعل العمل الصالح وقاية لنا من عذاب النار ، ويقال أخزاه : أي أذله وأهانه ، الذنب : هو التقصير فى المعاملة بين العبد وربه ، والسيئة : هى التقصير فى حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم بعضا ، وتوفنا : أي أمتنا ، والأبرار وأحدهم بارّ : وهو المحسن فى العمل ، على رسلك : أي على تصديق رسلك ، والميعاد : الوعد ، استجاب : أي أجاب ، لا أضيع عمل عامل : أي لا أترك ثوابه ، بعضكم من بعض : أي مختلطون متعاونون ، فى سبيلى : أي بسبب طاعتى وعبادتى ودينى.

المعنى الجملي

قال الرازي : اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق فى معرفة الحق ، فلما طال الكلام فى تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين ، عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآية.

وروى الطبراني وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات؟ فقالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين ، وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى؟ قالوا كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه فنزلت هذه الآية : إن فى خلق السموات إلخ فليتفكروا فيها.

الإيضاح

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي إن فى نظام السموات والأرض وبديع تقديرهما وعجيب صنعهما ، وفى اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق طوال العام ، نرى آثاره فى أجسامنا وعقولنا بتأثير

١٦١

حرارة الشمس وبرد الليل ، وفى الحيوان والنبات وغير ذلك ـ لآيات ودلائل على وحدانية الله وكمال علمه وقدرته.

عن عائشة رضى الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هل لك يا عائشة أن تأذنى لى الليلة فى عبادة ربى؟ فقلت : يا رسول الله إنى لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى وتريد) قد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء فى البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلى فقرأ من القرآن وجعل يبكى حتى بلغت الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكى ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟

ثم قال ومالى لا أبكى وقد أنزل الله علىّ فى هذه الليلة : إن فى خلق السموات والأرض إلخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وروى «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها».

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي أولو الألباب هم الذين ينظرون ويستفيدون ويهتدون ويستحضرون عظمة الله ويتذاكرون حكمته وفضله وجليل نعمه فى جميع أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع.

والخلاصة ـ إنهم هم الذين لا يغفلون عنه تعالى فى عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره ، واستغراق سرائرهم بمراقبته.

وذكر الله وحده لا يكفى فى الاهتداء ، بل لا بد معه من التفكر فى بديع صنعه وأسرار خليقته ، ومن ثم قال :

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ويتفكرون فى خلق السموات والأرض ، وما فيهما من الأسرار والمنافع الدالة على العلم الكامل ، والحكمة البالغة ، والقدرة التامة.

والخلاصة ـ إن الفوز والنجاة إنما يكون بتذكر عظمة الله والتفكر فى مخلوقاته

١٦٢

من جهة دلالتها على وجود خالق واحد له العلم والقدرة ، ويتبع ذلك صدق الرسل وأن الكتب التي أنزلت عليهم مفصّلة لأحكام التشريع ، حاوية لكامل الآداب ، وجميل الأخلاق ، ولما يلزم نظم المجتمع فى هذه الحياة ، وللحساب والجزاء على الأعمال بدخول الجنة والنار.

وإنما ذكر التفكر فى خلق الله ، لورود النهى عن التفكر فى الخالق ، لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته.

فقد أخرج الأصبهانى عن عبد الله بن سلام قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال : «تفكروا فى الخلق ولا تفكروا فى الخالق» وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى الله تعالى».

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) أي يقول الذاكرون المتفكرون : ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية والأرضية باطلا ، ولا أبدعته عبثا ، سبحانك ربنا تنزهت عن الباطل والعبث ، بل كل خلقك حق مشتمل على حكم جليلة ومصالح عظيمة.

والإنسان بعض خلقك لم يخلق عبثا ، فإن لحقه الفناء ، وتفرقت منه الأجزاء ، بعد مفارقة الأرواح للأبدان ، فإنما يهلك منه كونه الفاسد أي الجسم ، ثم يعود بقدرتك فى نشأة أخرى كما بدأته فى النشأة الأولى ، فريق أطاعك واهتدى ، وفريق حقت عليه الضلالة ؛ فالأول يدخل الجنة بصالح أعماله والآخر يكبّ فى النار بما اجترح من السيئات ، وما عمل من الموبقات ، جزاء وفاقا.

والخلاصة ـ إن المؤمن المتفكر يتوجه إلى الله بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال بعد أن رأى الدلائل على بديع الحكمة ، وواسع العلم بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه.

وفى هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عند ما يهتدون إلى شىء من معانى إحسانه وكرمه فى بدائع خلقه.

١٦٣

(فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي إنهم بعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار يتوجهون إليه قائلين هذا القول ، دلالة على عظم هذا العقاب وشدته وهو الخزي والفضيحة ، ليكون موقع السؤال أعظم ، لأن من طلب من ربه شيئا وشرح عظم المطلوب وقوّته ، كانت الداعية إلى الدعاء أكمل والإخلاص فى الطلب أشد.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الظالم هو الذي يتنكب الطريق المستقيم ، وقد وصف من يدخل النار بالظلم للدلالة على أن سبب دخوله إياها هو جوره وظلمه ، وللتشنيع عليه بهذا العمل القبيح.

أي إن هؤلاء المتفكرين الذاكرين ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلىّ الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار والحكم ، فيعلمون أنه لا يمكن أحدا أن ينتصر عليه ، وأن من عاداه فلا ملجأ له إلا إليه.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) المنادى هو الرسول ، وذكره بوصف المنادى تعظيما لشأن هذا النداء ، أي إنهم بعد أن عرفوا الله تعالى حق معرفته بالذكر والفكر عبروا عن وصول دعوة الرسول إليهم واستجابتهم دعوته سراعا بدون تلبّث بهذا القول ، لأنه دعاهم إلى ما اهتدوا إليه من قبل وزادهم معرفة وبصيرة فى عالم الغيب والحياة الآخرة.

وفى تقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى من عوّدهم الإحسان والإفضال.

(رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) الغفران : الستر والتغطية يقال : رجل مكفّر بالسلاح أي مغطى به ، قال لبيد : «فى ليلة كفر النجوم ظلامها».

أي إنهم طلبوا من الله تعالى فى هذا الدعاء ثلاثة أشياء : غفران الذنوب المتقدمة ، وتكفير السيئات المستقبلة ، وأن تكون وفاتهم مع الأبرار بأن يموتوا على مثل أعمالهم

١٦٤

حتى يكونوا فى درجاتهم يوم القيامة كما يقال فلان فى العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم فى أنه يعطى ألفا قال تعالى : «فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ».

وفى هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء الله «ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه».

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي ربنا أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر فى الدنيا والنعيم فى الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم.

وخلاصة ذلك ـ إنهم قالوا أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحق ذلك به إلى أن تتوفانا مع الأبرار ، وفى هذا استشعار بتقصيرهم وعدم الثقة بثباتهم إلا بتوفيق الله ومزيد عنايته.

(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها.

(إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا تخلف ما وعدت به على الإيمان وصالح العمل ، فقد وعدت بسيادة الدنيا فى قولك «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» وقلت «إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ» ووعدت بسعادة الآخرة فقلت «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ».

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي فاستجاب لهم ربهم دعاءهم ، لصدقهم فى إيمانهم وذكرهم وتفكيرهم وتنزيههم لربهم وتصديقهم للرسل وشعورهم بالضعف والتقصير فى الشكر واحتياجهم إلى المغفرة.

وإنا لنستخلص من هذه الآية أمورا :

(١) إن الاستجابة يصح أن تكون بغير ما طلب ، فقد سألوه غفران الذنوب وتكفير السيئات والوفاة مع الأبرار ، فأجابهم بأن كل عامل سيوفى جزاء عمله ،

١٦٥

وفى ذلك تنبيه إلى أن العبرة فى النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب ، إنما تكون بإحسان العمل والإخلاص فيه.

(٢) إن الذكر والأنثى متساويان عند الله فى الجزاء متى تساويا فى العمل حتى لا يغترّ الرجل بقوته ورياسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى الله منها.

(٣) إن الله قد بين علة هذه المساواة بقوله : بعضكم من بعض ، فالرجل مولود من المرأة والمرأة مولودة من الرجل ، فلا فرق بينهما فى البشرية ولا تفاضل إلا بالأعمال.

(٤) إنها رفعت قدر النساء المسلمات فى أنفسهن وعند الرجال المسلمين.

(٥) إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة واعترف لها بالكرامة ، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخّرة لمصلحة الرجل ، وبعضها يعدّها غير أهل للتكاليف الدينية ، إذ زعموا أنه ليس لها روح خالد ، فما زعمه الإفرنج من أنهم السبّاقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيا على أساس صحيح ، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع فى هذا ، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميّز الرجل من المرأة ، نعم إن المسلمين قصّروا فى تعليم النساء وتربيتهن ، لكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه.

(٦) إن ما يفضل به الرجال النساء من العلم والعقل وما يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال ، وجعل حظ الرجل فى الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقة امرأته ، فلا دخل لشىء منه فى التفاضل عند الله بثواب وعقاب (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). بعد أن ربط الله الجزاء بالعمل ، بيّن أن العمل الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات ، ودخول الجنات ، هو الهجرة من الوطن فى خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإخراج من الديار ، بإلجاء الكافرين إياهم إلى الخروج والإيذاء فى سبيل الله والقتال والقتل وبذل

١٦٦

لمهجة لله عز وجل ، كل أولئك يكفر الله به عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ولهذه الآية نظائر فى الكتاب الكريم كقوله «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وقوله : «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ» وقوله «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ».

وقد ذكر الله صفات المؤمنين هكذا ، لينبهنا إلى أن نروز أنفسنا ونختبرها ، فإن رأيناها تحتمل الأذى فى سبيل الله حتى القتل فلها الرضوان من ربها ، وإلا فلنروّضها حتى تصل إلى هذه المنزلة ، والسر فى هذا التكليف الشاق أن الحق لا يقوى إلا إذا وجد من ينصره ويؤيده ، ويقاوم الباطل وأعوانه ، حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الباطل هى السفلى ، فيجب على أنصار الحق ألا يفشلوا ولا ينهزموا ، بل يثبتوا مهما لاقوا من المحن والأرزاء ، فقد كتب الله النصر لعباده المؤمنين.

(ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) الثواب والمثوبة الجزاء ، وقد جعله الدين أثرا طبيعيا للعمل ، فللأعمال تأثير فى نفس العامل بتزكيتها فتكون منعمة فى الآخرة ، أو تدسيتها فتكون معذبة فيها.

وقد وعد الله تعالى من فعل ذلك بأمور ثلاثة :

(١) محو السيئات وغفران الذنوب ودل على ذلك بقوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) وذلك ما طلبوه بقولهم (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا).

(٢) إعطاء الثواب العظيم وهو قوله : (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهذا ما طلبوه بقولهم : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ).

(٣) أن يكون هذا الثواب عظيما مقرونا بالتعظيم والإجلال ، وهو قوله :

(مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهذا ما طلبوه بقولهم (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) والمعنى لأكفرنّ

١٦٧

عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم الجنات ولأثيبنهم بذلك ثوابا من الله لا يقدر عليه غيره.

(وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي هو ثواب من عنده مختص به بحيث لا يقدر عليه غيره ، وهذه الجملة تأكيد لشرف ذلك الثواب ، لأنه تعالى قادر على كل شىء ، غنى عن كل أحد ، فهو لا محالة فى غاية الجود والكرم والإحسان.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

تفسير المفردات

تقول : غرّنى ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه ، ويقال فى الثوب إذا نشر ثم أعيد إلى طيّه : رددته على غرّه ، تقلّب الذين كفروا : تصرفهم فى التجارات والمكاسب ، متاع قليل : أي ذلك الكسب والربح متاع قليل ، وإنما وصفه بالقلة لأنه قصير الأمد ، مأواهم : مصيرهم ، جهنم هى الدار التي يجازى فيها الكافرون فى الآخرة ، والمهاد : المكان الموطأ كالفراش ، والنزل : ما يهيأ للضيف النازل ، والأبرار : واحدهم بارّ وهو المتصف بالبر ، خاشعين : أي خاضعين ، اصبروا : أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها ، وصابروا : أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله ، ورابطوا :

أي أقيموا فى الثغور رابطين خيولكم حابسين لها مترصدين للغزو ، والتقوى : أن تقى نفسك من غضب الله وسخطه ، والفلاح : هو الفوز والظفر بالبغية المقصودة من العمل.

١٦٨

المعنى الجملي

بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا فى الدنيا فى غاية الفقر والشدة ، والكفار كانوا فى رخاء ولين عيش ذكر فى هذه الآية ما يسليهم ويصبّرهم على تلك الشدة ، فبين لهم حقارة ما أوتى هؤلاء من حظوظ الدنيا وذكر أنها متاع قليل زائل ، فلا ينبغى للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم.

الإيضاح

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) أي لا يغرنك يا محمد والمراد أمته ، فكثيرا ما يخاطب سيّد القوم بشىء ويراد أتباعه ، وهذا معنى ما روى عن قتادة أنه قال : والله ما غرّوا نبىّ الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله.

وخلاصة المعنى ـ لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم فى البلاد كيف شاءوا ، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون ، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب ، فعلى المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده الله فهو النعيم الحقيقي الباقي.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ذلك التقلب فى البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل ، عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه فى الآخرة فيكونون خالدين فيه أبدا ، بما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم.

نزلت الآية فى مشركى مكة إذ كانوا يضربون فى الأرض ، يتّجرون ويكتسبون حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد والإيقاع بهم أينما ثقفوهم ، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من ديارهم للتجارة أو غيرها.

وقد روى من وجه آخر أن بعض المؤمنين قال : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية.

وبعد أن بين حال الكافرين ومآل أمرهم ، ذكر عاقبة المؤمنين ليعلموا أنهم فى القسمة غير مغبونين ، فقال :

١٦٩

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات ، لهم جنات النعيم خالدين فيها أبدا.

ونحو الآية قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً» وفى الآية إيماء إلى أن النازلين فيها ضيوف عند ربهم يحفهم بلطفه ، ويخصهم بكرمه وجوده ، وهذه الجنات نعيم جسمانى لهم ، وهناك نعيم روحانى أعطاه الله بمحض الفضل والإحسان وإليه الإشارة بقوله :

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي وما عنده من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل الفاني.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) بعد أن بين حال المؤمنين وما أعدّ لهم من الثواب وحال الكافرين وما هيأ لهم من العقاب ، ذكر هنا حال فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هدى الأنبياء وقد وصفهم الله بصفات كلها تستحق المزية والشرف :

الأولى : الإيمان بالله إيمانا لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل ، لا كمن قال الله فيهم «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ».

الثانية : الإيمان بما أنزل إلى المسلمين ، وهو ما أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

الثالثة : الإيمان بما أنزل إليهم وهو ما أوحاه الله إلى أنبيائهم ، والمراد به الإيمان إجمالا وما أرشد إليه القرآن تفصيلا فلا يضير فى ذلك ضياع بعضه ونسيان بعضه الآخر.

الرابعة : الخشوع وهو الثمرة للإيمان الصحيح فإن الخشوع أثر خشية الله فى القلب ومنه تفيض على الجوارح والمشاعر ، فيخشع البصر بالانكسار ، ويخشع الصوت بالخفوت والتهدج.

١٧٠

الخامسة : عدم اشتراء شىء من متاع الدنيا بآيات الله وهذا أثر لما قبله.

روى النسائي من حديث أنس قال : «لما جاء نعى النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلّوا عليه ، قالوا : يا رسول الله نصلى على عبد حبشى ، فأنزل الله هذه الآية» :

(أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي هؤلاء المتصفون بحميد الصفات ، وجليل الأعمال ، لهم ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فهو يحاسب الناس جميعهم فى وقت قصير فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم ، وانطوت عليه جوانحهم ، وهو مكتوب فى صحائف أعمالهم ، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة (الأفلام) التي تعرض فيها الحوادث والوقائع فى عصرنا الحاضر.

وقد ختم الله هذه السورة بوصية للمؤمنين إذا عملوا بها كانوا أهلا لاستجابة الدعاء وأحق بالنصر فى الدنيا وحسن المثوبة فى الآخرة فقال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اصبروا على شدائد الدنيا وآلامها من مرض وفقر وخوف ، وصابروا : أي تحملوا المكاره التي تلحقكم من سواكم ، ويدخل فى ذلك احتمال الأذى من الأهل والجيران وترك الانتقام ممن يسىء إليكم كما قال : «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال : «وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» والعفو عمن ظلمكم كما قال «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» ودفع شبه المبطلين وحلّ شكوكهم والإجابة عن شبههم ، وقوله ورابطوا : أي اربطوا خيلكم فى الثغور كما يربط العدو خيله استعداد للقتال كما قال تعالى : «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» ويدخل فى هذا كل ما ولّده العلم فى هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات وقاذفات للقنابل ودبابات ومدافع رشاشة وبنادق وأساطيل بحرية ونحو ذلك مما ضار

١٧١

ضروريا من آلات الحروب الحديثة ، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزل من السلاح وإن كان مدجّجا به ، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب والخطط العسكرية بارعين فى العلوم الطبيعية والرياضية ، فكل ذلك واجب على المسلمين فى هذا العصر ، لأن الاستعداد لايتم إلا به.

ولقد أكثر الله فى كتابه من ذكر التقوى ويراد بها الوقاية من سخط الله وغضبه ، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه ، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله ، وعرف سنة نبيه ، وسيرة السلف الصالح من الأمة الإسلامية. ومن فعل كل ما تقدم فصبر وصابر ورابط لحماية الحق وأهله ونشر دعوته واتقى ربه فى سائر شئونه فقد أفلح وفاز بالسعادة عند ربه.

وهذا الفوز والفلاح بالبغية قد يكون فى شئون الدنيا كما جاء حكاية عن فرعون «وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» وقد يكون فى شئون الآخرة كقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف «وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً».

وقد يكون فيهما معا ، وأكثر ما جاء فى القرآن من هذا كالذى نحن فيه ، فإن مصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من وسائل الظفر على الأعداء فى الدنيا كما أنها من أسباب السعادة فى الآخرة بعد توافر حسن النية ، وقصد إقامة الحق والعدل.

وفقنا الله للعمل إلى ما يرضيه ، حتى نصل إلى سعادة الدارين ، بفضله وإحسانه ، ومنّه وكرمه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

١٧٢

سورة النساء

آيها مائة وسبعون وست ، نزلت بعد الممتحنة.

وهى مدنية كلها ، فقد روى البخاري عن عائشة أنها قالت : «ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد بنى النبي بعائشة فى المدينة فى شوال من السنة الأولى من الهجرة.

ووجه المناسبة بينها وبين آل عمران :

(١) إن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى ، وافتتحت هذه السورة بذلك ، وهذا من آكد المناسبات فى ترتيب السور.

(٢) إن فى السابقة ذكر قصة أحد مستوفاة ، وفى هذه ذيل لها وهو قوله :

«فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» فإنه نزل فى هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد.

(٣) إنه ذكر فى السالفة الغزوة التي بعد أحد وهى (غزوة حمراء الأسد) بقوله «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ» وأشير إليها هنا فى قوله : «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ» الآية.

ما حوته السورة من الموضوعات

(١) الأمر بتقوى الله فى السر والعلن.

(٢) تذكير المخاطبين بأنهم من نفس واحدة.

(٣) أحكام القرابة والمصاهرة.

(٤) أحكام الأنكحة والمواريث.

(٥) أحكام القتال.

(٦) الحجاج مع أهل الكتاب.

١٧٣

(٧) بعض أخبار المنافقين.

(٨) الكلام مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات فى آخرها.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

تفسير المفردات

الناس : اسم للجنس البشرى ، وهو الحيوان الناطق المنتصب القامة الذي يطلق عليه اسم (إنسان). تساءلون به : أي يسأل به بعضكم بعضا ، بأن يقول سألتك بالله أن تقضى هذه الحاجة ، والأرحام : أي خافوا حق إضاعة الأرحام ، والرقيب : المراقب وهو المشرف من مكان عال ، والمرقب : المكان الذي يشرف منه الإنسان على ما دونه ، والمراد هنا بالرقيب الحافظ لأن ذلك من لوازمه.

المعنى الجملي

يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أنشأكم من العدم ، ورباكم وشملكم بالجود والكرم ، واذكروا أنه خلقكم من نفس واحدة وجعلكم جنسا تقوم مصالحه على التعاون والتآزر ، وحفظ بعضكم حقوق بعض.

واتقوا الله الذي تعظمونه وتتساءلون فيما بينكم باسمه الكريم ، وبحقه على عباده وبما له من السلطان والجبروت ، وتذكّروا حقوق الرحم عليكم فلا تفرّطوا فيها ، فإنكم إن فعلتم ذلك أفسدتم الأسر والعشائر ، فعليكم أن تحافظوا على هاتين الرابطتين

١٧٤

رابطة الإيمان ورابطة الرحم الوشيجة ، والله رقيب عليكم يعلم ما تأتون وما تذرون ، ويحاسبكم على النّقير والقطمير «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي أيها الناس احذروا عصيان من رباكم بإحسانه ، وتفضل عليكم بجوده وإنعامه ، وجعلكم أقرباء يجمعكم نسب واحد وأصل واحد.

وجمهرة العلماء على أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدم ، وهم لم يأخذوا هذا من نص الآية ، بل أخذوه تسليما وهو أن آدم أبو البشر.

وقال القفّال : إن المراد أنه خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجا هو إنسان يساويه فى الإنسانية ، أو أن الخطاب لقريش الذين كانوا فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم آل قصىّ ، وأن المراد بالنفس الواحدة قصىّ اه.

وقال بعض العلماء أبهم الله تعالى أمر النفس التي خلق الناس منها ، فلندعها على إبهامها ، فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير مخالف لكتابنا ، كما هو مخالف للتوراة التي نصت صراحة على أن آدم أبو البشر فحمل ذلك بعض الناس على الطعن فى كونها من عند الله ووحيه.

وقال الأستاذ الإمام : إن ظاهر الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم لوجهين :

(١) البحث العلمي والتأريخي المعارض لذلك.

(٢) إنه قال رجالا كثيرا ونساء ، ولم يقل الرجال والنساء ، ولكن ليس فى القرآن ما ينفى هذا الاعتقاد ولا ما يثبته إثباتا قاطعا لا يحتمل التأويل اه.

وما جاء من مخاطبة الناس بقوله : «يا بَنِي آدَمَ» لا يعد نصّا فى كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفى فى صحة هذا الخطاب أن يكون من وجّه إليهم فى زمن التنزيل من أولاد آدم.

١٧٥

بحث فى حقيقة النفس أو الروح

اختلف المسلمون فى حقيقة النفس أو الروح الذي يحيا به الإنسان وتتحقق وحدة جنسه على اختلاف أصنافه ، وأشهر آرائهم فى ذلك : الرأى القائل :

إنها جسم نورانى علوىّ خفيف حىّ متحرك ينفذ فى جوهر الأعضاء ، ويسرى فيها سريان الماء فى الورد والنار فى الفحم ، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار التي تفيض عليها من هذا الجسم اللطيف ، وجد الحسّ والحركة الإرادية والفكر وغيرها ، وإذا فسدت هذه الأعضاء ، وعجزت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح.

ومما يثبت ذلك أن العقل والحفظ والتذكر وهى أمور ثابتة قطعا ـ ليست من صفات هذا الجسد ، فلابد لها من منشأ وجودى عبر عنه الأقدمون بالنفس أو الروح وما مثلها إلا مثل الكهرباء ، فالماديون الذين يقولون لا روح إلا هذه الحياة ، يكون مثل الجسد عندهم مثل المستودع الكهربائى ، فهو بوضعه الخاص ، وبما يودع فيه من الموادّ تتولد فيه الكهرباء ، فإذا زال شىء مما أودع فيه ، أو أزيل تركيبه الخاص فقد الكهرباء ، وهكذا حال الجسم تتولد فيه الحياة بتركيب مزاجه بكيفية خاصة ، وبزوالها تزول الحياة ، والذين يقولون إن للأرواح استقلالا عن الجسد ، يكون مثل الجسد مثل الآلة التي تدار بكهرباء تأتى إليها من المولّد الكهربائى ، فإذا كانت الآلة على وضع خاص فى أجزائها وأدوانها كانت مستعدة لقبول الكهرباء التي توجه إليها حتى تؤدى وظيفتها ، وإن فقدت منها بعض الأجزاء الرئيسية ، أو اختل وضعها الخاص تصبح غير قابلة للكهرباء ، ومن ثم لا تؤدى وظيفتها الخاصة بها.

(وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) أي وخلق لتلك النفس التي هى آدم زوجا منها وهى حواء ، قالوا إنه خلقها من ضلعه الأيسر وهو نائم ، وقد صرح بهذا فى الفصل الثاني من سفر التكوين وورد فى بعض الأحاديث ، فقد روى البخاري قوله صلى الله عليه وسلم

١٧٦

«إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها».

وخلاصة هذا ـ إنه شعّبكم من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء.

ويرى أبو مسلم الأصفهانى : أن معنى (منها) أي من جنسها كما جاء مثل هذا فى قوله : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» وقوله : «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» وقوله : «لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» فلا فرق بين أسلوب هذه الآية وأساليب الآيات الأخرى ، والمعنى فى الجميع واحد.

ومن ثبت عنده أن حواء خلقت من ضلع آدم فلا يكون مصدر الإثبات عنده هذه الآية ، وإلا كان إخراجا لها عما جاء فى أمثالها اه.

ثم فصل ما أجمله فى قوله : خلقكم من نفس واحدة ، فقال :

(وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) أي ونشر من آدم وحواء نوعى جنس الإنس وهما الذكور والإناث ، فجعل النسل من الزوجين كليهما ، فجميع سلائل البشر متوالدة من زوجين ذكر وأنثى.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) أي واتقوا الله الذي يسأل به بعضكم بعضا ، بأن يقول سألتك بالله أن تقضى هذه الحاجة ، وهو يرجو بذلك إجابة سؤله ، والمراد من سؤاله بالله سؤاله بإيمانه به وتعظيمه إياه ، أي أسألك بسبب ذلك أن تفعل كذا.

واتقوا إضاعة حق الأرحام ، فصلوها بالبر والإحسان ولا تقطعوها.

وكرر الأمر بالتقوى للحث عليها ، وعبر أوّلا بلفظ (الربّ) الذي يدل على التربية والإحسان ، ثم بلفظ (اللهِ) الذي يدل على الهيبة والقهر للترغيب أولا والترهيب ثانيا

١٧٧

كما قال تعالى : «يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» كأنه قيل : إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته ، لأنه شديد العقاب ، عظيم السطوة.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي إنه مشرف على أعمالكم ومناشئها من نفوسكم ، وتأثيرها فى أحوالكم لا يخفى عليه شىء من ذلك ، فلا يشرع لكم من الأحكام إلا ما فيه صلاحكم وسعادتكم فى الدنيا والآخرة.

وفى ذلك تنبيه لنا إلى الإخلاص فى أعمالنا ، إذ من كان متذكرا أن الله مراقب لأعماله كان جديرا أن يتقيه ويلتزم حدوده.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

تفسير المفردات

اليتيم لغة : من مات أبوه مطلقا ، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ مبلغ الرجال ، ولا تتبدلوا : أي لا تستبدلوا ، والخبيث : هو الحرام ، والطيب : هو الحلال ، حوبا كبيرا :

أي إثما عظيما ، القسط : النصيب ، وقسط : جار. قال الله تعالى : «وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» وأقسط : عدل. قال الله تعالى : «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» ما طاب لكم : أي مامال إليه القلب منهن ، مثنى وثلاث ورباع : أي ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ، ذلك أدنى ألا تعولوا : أي ذلك أقرب إلى عدم العول

١٧٨

والجور ، صدقاتهن : مهورهن ، نحلة : أي عطية وهبة ، هنيئا مريئا : الهنيء ما يستلزه الآكل ، والمريء : ما تجمل عاقبته كأن يسهل هضمه وتحسن تغذيته.

المعنى الجملي

بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقاد له من التكاليف ، ليبتعد عن سخطه وغضبه فى الدنيا والآخرة ـ شرع يذكر أنواعها ، وأولها إيتاء اليتامى أموالهم ، وثانيها حكم ما يحل عدده من الزوجات ومتى يجب الاقتصار على واحدة ، ثم وجوب إيتاء الصداق لهن.

الإيضاح

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) المراد بإيتاء الأموال إياهم : جعلها لهم خاصة وعدم أكل شىء منها بالباطل ، أي أيها الأولياء والأوصياء احفظوا أموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها لهم متى آنستم منهم الرشد ، فاليتيم ضعيف لا يقدر على حفظ ماله والدفاع عنه.

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي اكتسبتموه من فضل الله.

وخلاصة ذلك ـ لا تتمتعوا بمال اليتيم فى المواضع والحالات التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم ، فاذا فعلتم ذلك فقد جعلتم مال اليتيم بدلا من مالكم.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) المراد من الأكل سائر التصرفات المهلكة للأموال ، وإنما ذكر الأكل لأن معظم ما يقع من التصرفات فهو لأجله ، و (إِلى) بمعنى مع أي لا تأكلوا أموالهم مخلوطة ومضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بينهما ، لأن فى ذلك قلة مبالاة بما لا يحل وتسوية بين الحرام والحلال.

(إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) أي إن هذا الأكل ذنب عظيم وإثم كبير.

١٧٩

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي وإن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم ألا تتزوجوا بها فان الله جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوّج بغيرهن واحدة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا ، وتقول العرب فى كلامها اقتسموا ألف الدرهم هذا درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة على معنى أن كل واحد يأخذ درهمين فحسب أو ثلاثة أو أربعة ولو أفردت وقلت اقتسموه درهمين وثلاثة وأربعة لم يسغ استعمالا.

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) أي ولكن إن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجين أو الزوجات فعليكم أن تلزموا واحدة فقط ، والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك فى ذلك ، فالذى يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يثق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي اقتصروا على واحدة من الحرائر وتمتعوا بمن تشاءون من السراري لعدم وجوب العدل بينهن ، ولكن لهن حق الكفاية فى نفقات المعيشة بما يتعارفه الناس.

(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي اختيار الواحدة أو التسرى أقرب من عدم الجور والظلم.

والخلاصة ـ إن البعد من الجور سبب فى تشريع الحكم ، وفى هذا إيماء إلى اشتراط العدل ووجوب تحرّيه ، وإلى أنه عزيز المنال كما قال تعالى : «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ».

والعدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان كالتسوية فى المسكن والملبس ونحو ذلك ، أما ما لا يدخل فى وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم فى آخر عهده يميل إلى عائشة أكثر من سائر نسائه ، لكنه لا يخصها بشىء دونهن إلا برضاهن وإذنهن ، وكان يقول

١٨٠