تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

وجاء حكم التوفية فى الجزاء عاما لكل كاسب ، وإن كان الكلام فى جزاء الغالّ فحسب ـ ليكون كالدليل على المقصود من استيفائه الجزاء ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيّا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه حقيرا ، فالغالّ مع عظم جرمه أولى بذلك.

وقد أردف الله توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين ، فقال :

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ؟) أي أفمن اتقى وسعى فى تحصيل رضا الله بفعل الطاعات ، وترك الغلول وغيره من الفواحش والمنكرات حتى زكت نفسه وصفا روحه ـ يكون جزاؤه كجزاء من انتهى أمره إلى سخط الله ، وعظيم غضبه ، بفعل ما يدسّى نفسه من الخطايا من سرقة وغلول وسلب وقتل ، وترك ما يطهرها من فعل الخيرات وعمل الصالحات؟.

ثم صرح بالفارق بينهما فقال :

(وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومأواه الذي يأوى إليه ، ولا مرجع له غيره ، هى جهنم وساءت منقلبا ومرجعا ومآبا.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» وقوله : «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ».

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أي إن كلا ممن اتبع رضوان الله ومن باء بغضب من الله طبقات مختلفة ، ومنازل عند الله متفاوتة فى حكمه ، وبحسب علمه بشئونهم وبما يستحقون من الجزاء «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ».

والخلاصة ـ إن الناس يتفاوتون فى الجزاء عند الله كما يتفاوتون فى الفضائل والمعرفة فى الدنيا ، وما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة أو السيئة.

١٢١

وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا ابتداء من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبي صلى الله عليه وسلم فى مرض موته إلى الدرك الأسفل.

وهذه الدرجات أثر طبيعى لارتقاء الأرواح أو تدليها بالأعمال الصالحة أو السيئة.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه شىء من أعمالهم التي لها التأثير العظيم فى تزكية نفوسهم وفوزها وفلاحها وارتقائها إلى أرفع الدرجات ـ أو فى تدسيتها التي يترتب عليها الخيبة والخسران والهبوط إلى أسفل الدركات كما قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها).

ولا يعلم هذه الدرجات إلا من أحاط بكل شىء علما ، لأنه هو الذي لا يخفى عليه أثر من آثار الأعمال فى الأنفس ، ولا ما يختلج القلوب من الخواطر والهواجس.

وبعد أن نفى الغلول والخيانة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه أكد ذلك بهذه الآية.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي إن هذا الرسول ولد فى بلدهم ، ونشأ بين ظهرانيهم ، ولم يروا منه طوال حياته إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا ، فكيف يظن بمن هذه حاله خيانة وغلول؟.

وقد وصفه الله بأوصاف كل منها يقتضى عظيم المنة :

(١) إنه من أنفسهم أي إنه عربى من جنسهم ، وبذا يكونون أسرع الناس إلى فهم دعوته والاهتداء بهديه ، وأقرب إلى الثقة به من غيرهم ، إلى أنهم إذا كانوا على كثب منه وقفوا على أحواله من الصدق والأمانة ، إلى مالهم بذلك من شرف وجليل خطر كما قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقال :

وكم أب علا بابن ذا شرف

كما علت برسول الله عدنان

وقد خطب أبو طالب فى تزويج خديجة رضي الله عنها للنبى صلى الله عليه وسلم بمحضر من بنى هاشم ورؤساء مضر ، فقال :

١٢٢

الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل وضئضىء (أصل) معدّ ، وجعلنا حضنة بيته ، وسوّاس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس.

ثم إن هذا ابن أخى محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.

وتخصيص هذه المنة بالعرب مع أنه بعث للناس كافة لمزيد انتفاعهم به ، على أن هذه النعمة الكبرى ذكرت فى آيات أخرى كقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

(٢) إنه يتلو عليهم آياته الدالة على قدرة الله ووحدانيته وعلمه ، ويوجه النفوس إلى الاستفادة منها ، والاعتبار بها كما جاء فى قوله : «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وقوله «وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها» وقوله «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ».

(٣) إنه يزكيهم ويطهرهم من العقائد الزائفة ، ووساوس الوثنية وأدرانها إذ أن العرب وغيرهم قبل الإسلام كانوا فوضى فى أخلاقهم وعقائدهم وآدابهم ، فكان محمد صلى الله عليه وسلم يقتلع منهم جذور الوثنية ، ويدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى ، ومضارّ تخشى من بعض المخلوقات ، فيجب تعظيمها والالتجاء إليها ، دفعا لشرها ، وجلبا لخيرها ، وتقربا إلى خالقها.

ولا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام ، وعبد الخرافات ، يخاف فى موضع الأمن ، ويرجو حيث يجب الحذر والخوف.

(٤) إنه يعلمهم الكتاب والحكمة ، فتعليم الكتاب اضطرهم إلى تعلم الكتابة ،

١٢٣

وأخرجهم من الأمية إلى نور العلم والعرفان ، فقد طلب إليهم كتابة القرآن ، واتخذ كتبه للوحى ، وكتب كتبا دعا بها الملوك والرؤساء إلى الإسلام فى سائر الأصقاع المعروفة ، فانتشرت الكتابة بينهم ، وعظمت مدنيتهم ، وامتدت سلطتهم ؛ فملكوا الأمم التي كان لها السلطان والصّولة والنفوذ فى تلك الحقبة.

كذلك علّمهم الحكمة وأرشدهم إلى البصر بفهم الأشياء ، ومعرفة أسرارها ، وفقه أحكامها ، وبيان ما فيها من المصالح والحكم ، وهداهم إلى طرق الاستدلال ، ومعرفة الحقائق ، ببراهينها ، فكان ذلك من أكبر البواعث على العمل بها ، والتمسك بأهدابها ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

والخلاصة ـ إن تعليم الكتاب إشارة إلى معرفة ظواهر الشريعة ، وتعليم الحكمة إشارة إلى فهم أسرارها وعللها وبيان منافعها.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإنهم كانوا قبل هذه البعثة فى ضلال بيّن واضح ، ولا ضلال أظهر من ضلال قوم يشركون بالله ويعبدون الأصنام ويسيرون وراء الأوهام ، وهم على ذلك أميون لا يقرءون ولا يكتبون حتى يعرفوا حقيقة ما هم فيه من الضلال.

وإنما جعلها منة لكونها وردت بعد محنة ، فكان موقعها أعظم ، إذ أن بعثة الرسول جاءت بعد جهل وبعد عن الحق ، فكانت أعم نفعا وأتم وقعا.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ

١٢٤

فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

تفسير المفردات

المراد بالمصيبة : ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم ، وقتل سبعين منهم ، ومثليها أي ضعفها بقتل سبعين من المشركين ، وأسر سبعين منهم يوم بدر ، أنى هذا؟

أي من أين لنا هذا ، وهو تعجب مما حل بهم من هذا المصاب ، من عند أنفسكم أي بشؤم معصيتكم ، الجمعان : جمع المؤمنين وجمع المشركين ، فبإذن الله أي بإرادته الأزلية وقضائه السابق بارتباط بالمسببات بأسبابها ، فادرءوا أي فادفعوا ، إن كنتم صادقين أي فى دفع المكاره بالحذر.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول والخيانة ، ثم برأه منه ، وبين ما بعث لأجله ـ عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة وبعدها ، وبين خطأهم وضلالهم فى أقوالهم وأفعالهم.

الإيضاح

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا؟) أي لا ينبغى لكم أن تعجبوا مما حل بكم فى هذه الواقعة ، فإن خذلانكم فيها لم يبلغ مبلغ ظفركم فى بدر ، فقد كان نصركم فى تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين فى هذه.

فلما ذا نسيتم فضل الله عليكم فى بدر فلم تذكروه ، وأخذتم تعجبون مما أصابكم فى أحد وتسألون عن سببه.

١٢٥

وفائدة قوله قد أصبتم مثليها ـ التنبيه إلى أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحد فأنتم هزمتموهم مرتين ، فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة.

وقد كان سبب تعجبهم أنهم قالوا : كيف ننصر الإسلام الذي هو الدين الحق ومعنا الرسول ؛ وهم ينصرون دين الشرك بالله ، ومع ذلك ينصرون علينا؟.

وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بجوابين :

(١) قوله قد أصبتم مثليها.

(٢) قوله (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي إن هذا الذي وقع إنما وقع بشؤم معصيتكم لأنكم عصيتم الرسول فى أمور كثيرة :

(ا) إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : المصلحة فى البقاء فى المدينة ، فلا نخرج إلى أحد ، فأبيتم إلا الخروج ، وكان الرأى ما رآه الرسول حتى إذا ما دخلها المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع ، ورماهم النساء و

الصبيان بالحجارة من سطوح المنازل.

(ب) إنكم فشلتم وضعفتم فى الرأى.

(ح) إنكم تنازعتم وحصلت بينكم مهاترة كلامية.

(د) إنكم عصيتم الرسول صلى الله عليه وسلم وفارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكون من ورائكم.

ولا شك أن العقوبات آثار لازمة للأعمال ، والله تعالى إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية كما قال : «إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ».

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم ، وهو القادر على التخلي عنكم إن خالفتم وعصيتم ، وهو سبحانه قد ربط الأسباب بالمسببات ، ولا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر.

١٢٦

فوجود الرسول بينكم وأنتم قد خالفتم سنن الله فى البشر لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين فى أحد ، فهو بإذن الله وإرادته وقضائه السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها ؛ فكل عسكر يخطىء الرأى ، ويعصى قائده ، ويخلّى بين العدو وبين ظهره ، يصاب بمثل ما أصبتم به ، أو بما هو أشد وأنكى منه.

وفى ذلك تسلية للمؤمنين وعبرة تشرح لهم ما تقدم من قوله : «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ».

(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي ليظهر علم الله بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه ، واستفادتهم من المصايب حتى لا يعودوا إلى أسبابها ، وليعرفوا سنن الله عند ما يظهر فيهم حكمها ، كما يظهر حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر ، فيترتب على ذلك العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما واتقاء للمكروه ، واحتياطا فى الأمر ، كما تحدث العبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وكرهوا حصوله.

(وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) أي إن هؤلاء المنافقين دعوا إلى القتال ، وقيل لهم : إن كان فى قلبكم حب الدين والذود عنه فقاتلوا لأجله ، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.

والخلاصة ـ قاتلوا ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه ، أو قاتلوا للدنيا ودافعوا عن أنفسكم وأهليكم ووطنكم ، لكنهم راوغوا وقعدوا وتكاسلوا.

(قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) أي قالوا : لو نعلم أنكم تلقون قتالا فى خروجكم ما أسلمناكم ، بل كنا نتبعكم ، لكنا نرى أن الأمر سينتهى بدون قتال.

روى أن الآية نزلت فى عبد الله بن أبىّ ابن سلول وأصحابه الذين خرجوا من

١٢٧

المدينة فى جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين ، ويوقعوا فيهم الفشل.

ولا شك أن هذا الجواب منهم يدل على كمال النفاق ، وأنه ما كان غرضهم منه إلا التلبيس والاستهزاء ، إذ ذهاب المشركين وهم مدججون بسلاحهم إلى أحد من أقوى الأمارات على أنهم يريدون قتالا.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي هم يوم قالوا هذه المقالة «لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ» أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لظهور أماراته ، بانخذالهم عن نصرة المؤمنين ، واعتذارهم لهم على وجه الخديعة والاستهزاء ، فإن الجهاد فى سبيل الله والدفاع عن الأهل والوطن عند هجوم الأعداء مما يجب على المؤمن ، ولا ينبغى تركه بحال.

يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

وإنما قال : إنهم أقرب إلى الكفر ، ولم يقل إنهم كفار ـ منعا للنبز بالكفر بالعلامات والقرائن ، دون أن يكون هناك كفر صريح ، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم معاملة المؤمنين ، حتى إنه صلى على رئيسهم عبد الله بن أبىّ صلاة الجنازة بعد بضع سنين من وقعة أحد ، إلى أن فضحهم الله بقوله : «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ».

والخلاصة ـ إنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر لعملهم عمل الكفار بتركهم الجهاد ، لكنه لم يصرح به ، بل أومأ إليه ، تأديبا لهم عسى أن يتوب على من لم يتمكن الكفر فى قلوبهم ، ومنعا للناس من الهجوم على التكفير بالظّنة ووجود الأمارات فحسب.

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي إن ما تقوله ألسنتهم مخالف لما تضمره

١٢٨

قلوبهم ، فهم يظهرون الإيمان باللسان ويبطنون الكفر ، فالكذب دأبهم ليستروا به ما يضمرون ، ويؤيدوا ما يظهرون.

وفى ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم ، وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم.

والخلاصة ـ إنهم يتفوهون بقول لا وجود لمنشئه فى قلوبهم كقولهم : لو نعلم قتالا ، وقولهم : لاتبعناكم ، وهم كاذبون فى كل من الأمرين ، فإنهم كانوا عالمين به وقد أصروا على الانخذال وعزموا على الارتداد.

ثم أكد كفرهم ونفاقهم وبين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد فقال :

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم ، فهو فى كل حين يبين مخبآت أسرارهم ، ويكشف أستارهم ، ثم يعاقبهم على ذلك فى الدنيا والآخرة.

والخلاصة ـ إنه لا ينفعهم النفاق ، فالله أعلم بما تكنّه سرائرهم وقلوبهم.

وبعد أن ذكر قولا قالوه قبل القتال وبين بطلانه ـ أردفه قولا قالوه بعده وبيّن فساده ، قال :

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) أي هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا فى هذه الواقعة ، والحال أنهم قعدوا عن القتال : لو أطاعونا فى القعود ولم يخرجوا للقتال كما لم نخرج ـ لما قتلوا كما أنّا لم نقتل.

وفى هذا إيماء إلى أنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا.

أخرج ابن جرير عن السّدّى قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا ، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبىّ فى ثلاثمائة ، فتبعهم أبو جابر السّلمى يدعوهم ، فقالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا ، فنعى الله عليهم ذلك بقوله ـ الذين قالوا لإخوانهم ـ الآية.

وقد دحض الله تعالى حجتهم ، وأبان لهم كذبهم ، ووبخهم على ما قالوا ، فقال لنبيه :

١٢٩

(قُلْ : فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم : إن صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علما بأسباب الموت فى هذه الواقعة ، وإذا جاز فيها جاز فى غيرها ، وحينئذ يمكنكم درء الموت ودفعه عن أنفسكم.

والخلاصة ـ إنكم إن كنتم صادقين فى أن الحذر يغنى عن القدر ، وأن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة ، فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

تفسير المفردات

الاستبشار : السرور الحاصل بالبشارة ، والذين لم يلحقوا بهم هم الذين بقوا فى الدنيا ، استجابوا أي أجابوا وأطاعوا ، والقرح الجراح فى يوم أحد ، والإحسان

١٣٠

أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة ، والتقوى : أن يخاف الإساءة والتقصير فيه ، حسبنا الله ، أي الله كافينا ، والوكيل : الكافي الذي توكل إليه الأمور ، فانقلبوا ، أي فرجعوا ، والمراد بالنعمة : السلامة والثبات على الإيمان وطاعة الرسول ، والفضل : هو الربح فى التجارة ، والشيطان هنا : شيطان الإنس الذي غش المسلمين ليخذلهم ، وهو نعيم بن مسعود ، يخوّف أولياءه ، أي يخوفكم أنصاره من المشركين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين فى الجهاد بتحذيرهم عواقبه ، وأنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد ، والقتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله وقدره كما يحدث الموت ، فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل ، ومن لم يقدّر له لا خوف عليه من الجهاد.

ذكر هنا ما يحبب الجهاد فى سبيل الله ، فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ربهم قد خصهم الله بالقرب منه ، والكرامة لديه ، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور.

أخرج الإمام أحمد فى جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة فى ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ، فقال الله تعالى : ـ أنا أبلغهم عنكم ـ فأنزل الله هؤلاء الآيات».

الإيضاح

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) أي ولا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه ، فيؤثرون الدنيا على الآخرة ـ أن من قتلوا فى سبيل الله أمواتا قد فقدوا الحياة وصاروا عدما.

١٣١

(بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) أي بل هم أحياء فى عالم آخر غير هذا العالم ، هو خير للشهداء ، لما فيه من الكرامة والشرف عند الله ، فليس القتل فى سبيله بضائرهم ، إذا ما صاروا إليه خيرا مما كانوا فيه ، فلو سلم أن الخروج للقتال سبب للقتل لما كان مثبّطا للمؤمنين عن الجهاد عند وجوبه ، كما إذا هاجم المشركون المؤمنين فى مثل وقعة أحد ، أو إذا فتن المسلمون عن دينهم ومنعوا من الدعوة إليه وإقامة شعائره ، كما فعل مشركو العرب مع المسلمين زمن البعثة.

كيف والخروج إلى القتال كثيرا ما يكون سببا للسلامة ، فإن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع فيها غيرها ، وإذا هاجمها ظفر بها ونال منها ما يريد.

وهذه الحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية لا ندرك حقيقتها ، ولا نزيد على ما جاء به الوحى.

وقوله : يرزقون تأكيد لكونهم أحياء ، وتحقيق لهذه الحياة.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي مسرورين بشرف الشهادة ، والتمتع بالنعيم العاجل ، والزّلفى عند ربهم ، والفوز بالحياة الأبدية.

(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي ويسرّون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد فى سبيل الله ، فيلحقوا بهم من خلفهم ، أي أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم.

وقوله : من خلفهم إشارة إلى أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذون حذوهم قدما بقدم ، وفى ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم حثّ للباقين بعدهم على زيادة الطاعة والجد فى الجهاد والرغبة فى نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ، كما فيه إخماد لحال من يرى نفسه فى خير فيتمنى مثله لإخوانه فى الدين ، وفيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمئاب.

(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي هم يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء ، وهى أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية

١٣٢

لا يكدرها خوف من وقوع مكروه من أهوالها ، ولا حزن من فوات محبوب من نعيمها

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) النعمة هى الثواب الذي يلقاه العامل جزاء عمله ، والفضل هو التفضل الذي يمنّ الله به على عباده الطائعين المخبتين إليه ، والمراد بالمؤمنين الشهداء الذين وصفوا بالأوصاف الآتية بعد.

وعبر عنهم يوصف الإيمان للاشارة إلى سموّ مكانته ، ورفعة منزلته وكونه مناط السعادة.

وفى ذلك تحريض على الجهاد ، وترغيب فى الشهادة ، وحثّ على ازدياد الطاعة وبشرى للمؤمنين بالفوز العظيم.

وقد جاءت هذه الجملة كالبيان والتفسير لقوله ـ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ـ لأن من كان فى نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا ، ومن كانت أعماله مشكورة غير مضيعة لا يخاف العاقبة.

ثم وصفهم بحسن أفعالهم الموجب لزيادة أجرهم فقال :

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي هؤلاء المؤمنون هم الذين أجابوا دعوته ، ولبّوا نداءه ، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه ، واتقوا عاقبة تقصيرهم ، على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد ، لهم أجر عظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال.

وفى قوله : منهم إشارة إلى أن من دعوا لبّوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا ، ولكن عرض لبعضهم موانع فى أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا ، وخرج الباقون.

روى أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد ، فبلغوا الرّوحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا وهمّوا بالرجوع حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب أصحابه للخروج فى إثر أبى سفيان وقال : لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء

١٣٣

الأسد (موضع على ثمانية أميال من المدينة) وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين فنزلت الآية.

وتسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد ، وهى متصلة بغزوة أحد.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أي وهم الذين قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعى ومن وافقه وأذاع قوله وهم أربعة : إن أبا سفيان وأعوانه جمعوا الجموع لقتالكم فاخشوهم ولا تخرجوا للقائهم.

روى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن الآية نزلت فى غزوة بدر الصغرى.

ذاك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذاك بيننا وبينك إن شاء الله ، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل (مجنّة) من ناحية (مرّ الظهران) فألقى الله الرعب فى قلبه ، فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان : إنى واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقى بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لى أن أرجع ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأة ، فالحق بالمدينة فثبطهم ، ولك عندى عشرة من الإبل أضعها فى يدى سهيل بن عمرو ، فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبى سفيان فقال لهم : ما هذا بالرأى ، أتوكم فى دياركم وقراركم ولم يفلت منكم إلا شريد ، فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم ، فو الله لا يفلت منكم أحد ، فكان لكلامه وقع شديد فى نفوس قوم منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسى بيده لأخرجنّ ولو وحدي» فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى وافى بدرا الصغرى (بدر الموعد) فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلق أحدا ،

١٣٤

لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة وكان معه ألفا رجل فسماه أهل مكة جيش السّويق ، وقالوا لهم إنما خرجتم لتشربوا السويق.

ووافى المسلمون سوق بدر ، وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا فربحوا وأصابوا بالدرهم در همين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.

(فَزادَهُمْ إِيماناً) أي زادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة به ، ولم يلتفتوا إلى تخويفهم بل حدث فى قلوبهم عزم وتصميم على محاربة هؤلاء الكافرين ، وطاعة للرسول فى كل ما يأمر به وينهى عنه ، وإن أضناهم ذلك وثقل عليهم ، لما بهم من جراحات عظيمة وقد كانوا فى حاجة إلى قسط من الراحة ، وشىء من التداوى ، لكن وثوقهم ، بنصر الله وتغلبهم على عدوهم أنساهم كل هذه المصاعب فلبوا الدعوة سراعا.

والخلاصة ـ إن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله وعظمته وسلطانه ويقينهم بوعد الله ووعيده ، وتبع ذلك زيادة فى العمل ، ودأب على إنفاذ ما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو لا ذلك ما أقدموا على الاستجابة على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان.

ونحو الآية قوله تعالى «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً».

(وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي قالوا معبّرين عن صادق إيمانهم بالله : الله يكفينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا الجموع لنا ، فهو لا يعجزه أن ينصرنا على قلّتنا وكثرتهم ، أو يلقى فى قلوبهم الرعب ، فيكفينا شر بغيهم وكيدهم ، وقد كان الأمر كما ظنوا ، فألقى الله الرعب فى قلب أبى سفيان وجيشه على كثرة عددهم وتوافر عددهم ، فولّوا مدبرين ، وكان فى ذلك عزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل» وأخرج ابن أبى الدنيا

١٣٥

عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته ، ثم تنفس الصّعداء وقال : حسبى الله ونعم الوكيل».

وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حسبى الله ونعم الوكيل أمان كل خائف».

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي فخرجوا للقاء عدوهم ولم يلقوا منهم كيدا ولا همّا ، ولم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم ، وأطاعوا رسولهم ، وربحوا فى تجارتهم ، ولم يمسسهم قتل ولا أذى.

روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت فى أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح ما لا فقسمه بين أصحابه ، فذلك الفضل.

وأخرج ابن جرير عن السدى قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فى بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها فى الموسم فأصابوا ربحا كثيرا.

(وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) أي واتبعوا فى كل ما أتوا من قول أو فعل رضا الله الذي هو وسيلة النجاة والسعادة فى الدنيا والآخرة ، فأطاعوا رسوله فى كل ما به أمر ، وعنه نهى.

(وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان ، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد ، والجرأة على العدو ، وحفظهم من كل ما يسوءهم.

وفى هذا إلقاء للحسرة فى قلوب المتخلفين منهم ، وإظهار لخطل رأيهم ، إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي ليس ذلك الذي قال لكم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وأنصاره المشركين ، ويوهمكم أنهم عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد ، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم ، وتحبنوا عن مدافعتهم.

١٣٦

(فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فلا تخافوا أولئك الأولياء ، ولا تحفلوا بقولهم (فَاخْشَوْهُمْ) فتخافوهم ، بل خافونى فى مخالفة أمرى ، لأنكم أوليائى وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخى الإيمان قائمين بحقوقه ، فإن من حقه إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره ، والأمن من شر الشيطان وأوليائه.

وخلاصة ذلك ـ إنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف ، فاستحضروا فى نفوسكم قدرة الله الذي بيده كل شىء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، وتذكروا وعده بنصركم ، وإظهار دينكم على الدين كله ، وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق ، واذكروا قوله : «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ثم خذوا أهبتكم ، وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا فى قلوبكم.

وفى هذه الآية من العبرة :

(١) إن صادق الإيمان لا يكون جبانا ، فالشجاعة وصف للمؤمن ، لا يبلغ غيره فيها مداه ، إذ أن العلة الحقيقية للجبن هى الخوف من الموت والحرص على الحياة ، وقلب المؤمن لا يتسع لهما.

ولا يزال العالم اليوم يشهد شجاعة الجيوش الإسلامية مع ما منى به المسلمون من ضعف فى إيمانهم ، وجهل بكثير من شئون دينهم.

(٢) إن فى استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف ، ويعوّد نفسه الاستهانة بها بالتمرين والتربية وتعوّد الإقدام إذا عرضت له تلك الأسباب.

(٣) إذا عرضت له أسباب الخوف فعليه ألا يسترسل لها حتى لا يتمكن أثرها فى نفسه ، وتتجسم صورتها فى خياله ، بل يغالبها بصرفها عن ذهنه ، وشغله بما يضاده ويذهب بآثارها ، أو يتبدلها بآثار مناقضة لها ، وهذا يدخل فى اختيار الإنسان ، وهو الذي نبط به التكليف.

١٣٧

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩))

تفسير المفردات

يسارعون فى الكفر ، أي يسارعون فى نصرته والاهتمام بشئونه والإيجاف فى مقاومة المؤمنين ، حظا فى الآخرة أي نصيبا من الثواب فيها ، اشتروا الكفر أي أخذوا الكفر بدلا من الايمان كما يفعل المشترى من إعطاء شىء وأخذ غيره بدلا منه ، والإملاء : الإمهال والتخلية بين العامل وعمله ليبلغ أقصى مداه ، من قولهم : أملى لفرسه إذا أرخى له الطّول ليرعى كيف شاء ، ومنه الملأ للأرض الواسعة ، والملوان : الليل والنهار ؛ ليزدادوا إثما ، أي أفرزته وأزلته ، ومنه الحديث «من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة». على ما أنتم عليه ، أي من اختلاط المؤمن بالمنافق وأشباهه ؛ والخبيث والطيب أي المنافق بالمؤمن ، ويجتبى : أي يصطفى ويختار.

المعنى الجملي

لما كان من فوز المشركين فى أحد ما كان ، وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين شىء كثير من الأذى ـ أظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون

١٣٨

المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم ، ويقولون لهم : إن محمدا طالب ملك ، فتارة يكون الأمر له ، وتارة عليه ، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب ، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام ، فكان الرسول يحزن لذلك ، ويسرف فى الحزن ، فنزلت هذه الآيات تسلية له ، كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان ، أو طعنهم فى القرآن ، أو فى شخصه عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» وقوله : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

الإيضاح

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي ولا يحزنك أيها الرسول مسارعة المنافقين وطائفة من اليهود إلى نصرة الكافرين واهتمامهم بشأنهم ، والإيجاف فى مقاومة الكافرين بكل ما أوتوا من الوسائل ، ومن التثبيط للعزائم ، والنيل من نبيهم ودعوته ، وتأليب المشركين عليهم ، إلى نحو ذلك مما يدور فى خلد العدو لإيذاء عدوه.

ونحو الآية قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا».

وتوجيه الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم تسلية له وإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه.

ثم علل هذا النهى وأكمل التسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا بقوله :

(إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحبه ، شيئا من الضر ، فعاقبة هذه المسارعة فى الكفر وبال عليهم لا عليك ولا على المؤمنين ، فإنهم لا يحاربونك فيضروك ، وإنما هم يحاربون الله تعالى ، ولا شك أنهم أعجز من

١٣٩

أن يفعلوا ذلك ، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم ، وفى جعل مضرتهم مضرة لله تعالى تشريف لهم ، ومزيد مبالغة فى تسليته صلى الله عليه وسلم.

ثم بين أنهم لا يضرون إلا أنفسهم فقال :

(يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي إن سر ابتلائهم ما هم فيه من الانهماك فى الكفر وقد قضى ذلك بحرمانهم من نعيم الآخرة وفق ما تقتضيه سنة الله وإرادته.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إنهم على حرمانهم من الثواب لهم عذاب عظيم لا يقدر قدره.

وبعد أن بين حكم أولئك الذين يسارعون إلى نصرة الكفر والدفاع دونه ومقاومة المؤمنين لأجله ، وأرشد إلى أنه لا يؤبه بهم ، ولا يهتم بشأنهم ، فهم إنما يحاربون الله والله غالب على أمره ـ أشار هنا إلى أن هذا حكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان واستبدله به فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا ، فلن يضروا الله شيئا ، وإنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم الذي لا يقدر قدره.

وفى هذا إيماء إلى شيئين :

(١) تأكيد عدم إضرارهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.

(٢) بيان سخف عقولهم وخطل آرائهم ، إذ هم كفروا أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك ، وهذا دليل على شدة اضطرابهم ، وعدم ثباتهم ، ومثل هؤلاء لا يخشى منهم شىء مما يحتاج إلى أصالة الرأى وقوة التدبير.

ثم بين أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبّا فى الحياة ليس من الخير لهم فقال :

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ولا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم ، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملا صالحا ينتفعون به

١٤٠