تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

(فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) أي إن الأخ لأم يأخذ فى الكلالة السدس ، وكذلك الأخت ، لا فارق بين الذكر والأنثى ، لأن كلا منهما حل محل أمه فأخذ نصيبها ، فإذا تعددوا أخذوا الثلث وكانوا أيضا فيه سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) أي من بعد وصية يوصى بها أو دين يقرّبه وهو غير مضارّ للورثة قال النخعي : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وقبض أبو بكر وقد وصى ، فإن أوصى الإنسان فحسن ، وإن لم يوص فحسن أيضا ، ومن الحسن أن ينظر الإنسان فى قدر ما يخلف ومن يخلف ثم يجعل وصيته بحسب ذلك ، فإن كان ماله قليلا وفى الورثة كثرة لم يوص ، وإن كان فى المال كثرة أوصى بحسب ماله وبحسب حاجتهم بعده كثرة وقلة ، وقد روى عن على أنه قال : لأن أوصى بالخمس أحب إلىّ من أن أوصى بالربع ، ولأن أوصى بالربع أحب إلىّ من أن أوصى بالثلث.

والضرار فى الوصية والدين يقع على وجوه :

١) أن يوصى بأكثر من الثلث ، وهو لا يصح ولا ينفّذ ، وعن ابن عباس أن الضرار فيها من الكبائر.

٢) أن يوصى بالثلث فما دونه لا لغرض من القربة والتصدق لوجه الله بل لغرض تنقيص حقوق الورثة.

٣) أن يقر بدين لأجنبى يستغرق المال كله أو بعضه ، ولا يريد بذلك إلا مضارة الورثة ، وكثيرا ما يفعله المبغضون للوارثين ولا سيما إذا كانوا كلالة ، ومن ثم جاء ذكر هذا القيد (غير مضارّ) فى وصية ميراث الكلالة ، لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذا الأزواج نادر.

٤) أن يقرّ بأن الدين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه.

(وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) أي يوصيكم بذلك وصية منه عز وجل ، فهى جديرة أن يعتنى بها ويذعن للعمل بموجبها.

٢٠١

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) أي والله عليم بما ينفعكم وبنيات الموصين منكم ، حليم لا يعجل بعقوبتكم بمخالفة أحكامه ولا بالجزاء على مخالفتها عسى أن تتوبوا ، كما لا يبيح لكم أن تعجلوا بعقوبة من تبغضونه فتضاروه فى الوصية ، كما لا يرضى لكم بحرمان النساء والأطفال من الإرث.

وفى هذا إشارة إلى أنه تعالى قد فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة لنا ، فمن الواجب أن نذعن لوصاياه وفرائضه ونعمل بما ينزل علينا من هدايته ، كما لا ينبغى أن يغرّ الطامع فى الاعتداء وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل ، فيظن أنهم بمنجاة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرءوا عليه من الاعتداء ، فإنه إمهال يقتضيه الحلم لا إهمال من العجز وعدم العلم

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))

الإيضاح

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) حدود الشيء : أطرافه التي يمتاز بها من غيره ، ومنه حدود الدار ، سميت بها الشرائع التي أمر الله باتباعها ونهى عن تركها ، فمدار الطاعة على البقاء فى دائرة هذه الحدود ، ومدار العصيان على اعتدائها ، والمشار إليه كل ما ذكر من أول السورة إلى هنا من بيان أموال اليتامى وأحكام الأزواج وأحوال المواريث.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) طاعة الله : هى ما شرعه من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ،

٢٠٢

وطاعة الرسول : هى اتباع ما جاء به من الدين عن ربه ، فطاعته هى بعينها طاعة الله كما قال فى هذه السورة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) فهو إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله بما فيه منافع لنا فى الدنيا والآخرة ، وإنما ذكرها مع طاعة الله للاشارة إلى أن الإنسان لا يستغنى بعقله وعلمه عن الوحى وأنه لا بد له من هداية الدين إذ لم يكن العقل وحده فى عصر من العصور كافيا لهداية أمة ولا مرقّيا لها بدون معونة الدين ، فاتباع الرسل والعمل بهديهم هو أساس كل مدنية ، والارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي ، فالآداب والفضائل التي هى أسس المدنيات تستند كلها إلى الدين ، ولا يكفى فيها بناؤها على العلم والعقل ، والجنات التي تجرى من تحتها الأنهار تقدم تفسيرها ، ونحن نؤمن ونعتقد أنها أرفع مما نرى فى هذه الدنيا ، وليس لنا أن نبحث عن كيفيتها لأنها من عالم الغيب ، والفوز العظيم : الظفر والفلاح الذي لا يذكر بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة المنغصة بالأكدار (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) وقال فى ذكر أهل الجنة خالدين ، وفى ذكر أهل النار خالدا ، إشارة إلى تمتع أهل الجنة بالاجتماع وأنس بعضهم ببعض ، والمترفون يسرون بمثل هذا التمتع ، وأما الذي فى النار فإن له من العذاب ما يمنعه من الأنس فكأنه وحيد لا يجد لذة فى الاجتماع بغيره ولا أنسابه. يرشد إلى ذلك قوله تعالى «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» وتعدى الحدود الموجب للخلود فى النار : هو الإصرار على الذنب وعدم التوبة عنه ، فللمذنب حالان :

١) غلبة الباعث النفسي من الشهوة أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهى ، فهو يقع فى الذنب وقلبه غائب عن الوعيد لا يتذكره أو يتذكره ضعيفا كأنه نور ضئيل يلوح فى ظلمة ذلك الباعث المتغلب ثم لا يلبث أن يزول أو يختفى ، حتى إذا سكنت الشهوة أو سكت الغضب وتذكر النهى والوعيد ندم وتاب ولام نفسه أشد اللوم ، ومثل هذا جدير بالنجاة إذ هو من المسارعين إلى الجنة كما قال تعالى فى أوصافهم «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

٢٠٣

٢) أن يقدم المرء على الذنب جريئا عليه متعمدا فعله عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة ، لا يصرفه عنه تذكر النهى والوعيد عليه ، ومثل هذا قد أحاطت به خطيئته فآثر شهوته على طاعة الله ورسوله ، فدخل فى عموم قوله تعالى «بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».

إذ من يصرّ على المعصية عامدا عالما بالنهى والوعيد لا يكون مؤمنا بصدق الرسول ولا مذعنا لشرعه الذي تنال الرحمة والرضا بالتزامه ، والعذاب والنكال بتعدي حدوده ، فالإصرار على العصيان وعدم استشعار الخوف والندم لا يجتمعان فى قلب المؤمن الإيمان الصحيح المصدّق بوعد الله ووعيده.

(وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) المهين المذلّ له وهو عذاب الروح ، فللعصاة عذابان : عذاب جسمانى للبدن العاصي باعتباره حيوانا يتألم ، وعذاب روحانى باعتباره إنسانا يشعر بالكرامة والشرف ويتألم بالإهانة والخزي.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

المعنى الجملي

بعد أن أوصى سبحانه بالإحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالمعروف والمحافظة على أموالهن وعدم أخذ شىء منها إلا إذا طابت نفسهن بذلك ـ ذكر هنا التشديد عليهن فيما يأتينه من الفاحشة ، وهو فى الحقيقة إحسان إليهن ، إذ الإحسان فى الدنيا تارة يكون بالثواب ، وأخرى بالزجر والعقاب ، لكف العاصي عن العصيان الذي يوقعه فى الدمار

٢٠٤

والبوار ، ومبنى الشرائع على العدل والإنصاف والابتعاد عن طرفى الإفراط والتفريط.

ومن أقبح العصيان الزنا ، ولا سيما من النساء ، لأن الفتنة بهن أكثر ، والضرر منهن أخطر ، لما يفضى إليه من توريث أولاد الزنا وانتسابهم إلى غير آبائهم.

الإيضاح

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها إذا فعلها قال تعالى «لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» وفى التعبير عن الإقدام على الفواحش بهذه العبارات معنى دقيق وهو أن الفاعل لها ذهب إليها بنفسه واختارها بطبعه ، والفاحشة الفعلة القبيحة والمراد بها هنا الزنا لزيادتها فى القبح على كثير من القبائح ، وقوله من نسائكم أي من المؤمنات.

(فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي اطلبوا شهادة أربعة رجال أحرار منكم.

قال الزهري «مضت السنة من رسول الله والخليفتين بعده ألا تقبل شهادة النساء فى الحدود» والحكمة فى هذا إبعاد النساء عن مواقع الفواحش والجرائم والعقاب والتعذيب رغبة فى أن يكنّ دائما غافلات عن القبائح لا يفكرن فيها ولا يخضن مع أربابها.

والخطاب للمسلمين جميعا لأنهم متكافلون فى أمورهم العامة كما تقدم مرارا ، فهم الذين يختارون لأنفسهم الحكام الذين ينفذون الأحكام ويقيمون الحدود.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) التوفى الاستيفاء وهو القبض ، تقول توفيت مالى على فلان واستوفيته إذا قبضته ، والسبيل الطريق للخروج من الحبس بما يشرعه الله من العقوبة لهن.

والمعنى فان شهد الأربعة بفعلها فاحبسوهن فى بيوتهم وامنعوهن الخروج منها عقوبة لهن حتى لا يعدن إلى ارتكابها مرة أخرى إلى أن يمتن ويقبض أرواحهنّ الموت أو يجعل الله لهن طريقا بما يشرعه من حدّ الزنا.

٢٠٥

وفى الآية إشارة إلى أن منع النساء عن الخروج عند الحاجة إليه فى غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو لمجرد الهوى والتحكم من الرحال لا يجوز ، وكذلك فيها إيماء إلى أن هذه العقوبة مقرونة بما يدل على التوقيت. وقد روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خذوا عنى خذوا عنى ، قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ومن هذا تعلم أن السبيل كان مجملا فبينه الحديث وخصص عموم آية الجلد الآتية فى سورة النور (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

ثم بين عقاب كل من الزانيين فقال :

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) أي والزاني والزانية اللذان يرتكبان جريمة الزنا آذوهما بالتأنيب والتوبيخ بعد ثبوت ذلك بشهادة أربعة من الرجال.

وهذا العقاب كان أول الإسلام من قبيل التعزير وأمره مفوض إلى الأمة فى كيفيته ومقداره فلما نزلت آية النور التي تقدم ذكرها وجاء الحديث الشريف السابق بينا مقدار هذا الإيذاء وحدداه ، وبهما استبان أن عقاب الثيب والرجل المتزوج الرجم بالحجارة حتى يموتا وعقاب البكر والرجل الذي لم يتزوج جلد مائة ونفيه سنة.

ثم بين أن هذا العقاب إنما يكون إذا لم يتوبا فإن تابا وأصلحا رفع عنهما ذلك فقال :

(فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي فان رجعا عن فعل الفاحشة وندما على ما فات وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما كما هو شأن المؤمن يطهر نفسه بالإقبال على الطاعة ويزكيها من أدران المعاصي التي فرطت منه ويقوى داعية الخير حتى تغلب داعية الشر فكفوا عن أذاهما بالقول والفعل.

ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله :

(إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) التواب الذي يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه ، والرحيم واسع الرحمة ، والجملة جاءت تعليلا للأمر بالإعراض ، والخطاب هنا لأولى الأمر والحكام.

٢٠٦

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه أن من تاب وأصلح تركت عقوبته وأزيل الأذى عنه ، وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده ـ ذكر هنا وقت التوبة وشرط قبولها ورغبته فى تعجيلها حتى لا يأتى الموت وهو مصرّ على الذنب فلا تنفعه التوبة ، وأرشد أولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة فى معاقبتهم وتأديبهم ، فأمرهنا بالإعراض عن أذى من تاب وأصلح العمل بعد أن فرض عقوبة مرتكبى الفواحش فى الآية السالفة فهذه شرح لذلك الإصلاح فى العمل.

الإيضاح

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) السوء :

هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة ، وهذا شامل للصغائر والكبائر ، والجهالة : الجهل وتغلب السفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب حتى يذهب عنها الحلم وتنسى الحق ، وكل من عصى الله سمى جاهلا وسمى فعله جهالة كما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقال تعالى لنوح : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

وسر هذا أن العاصي لربه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية ، إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد ، ومنتظر الاحتمال العفو والمغفرة ، أو شفاعة الشفعاء التي تصد عنه العقاب.

٢٠٧

والزمن القريب : هو الوقت الذي تسكن به ثورة الشهوة أو تنكسر به حدة الغضب ويثوب فاعل السيئة إلى حلمه ويرجع إليه دينه وعقله ، إذ من كان قوىّ الإيمان لا تقع منه المعصية إلا عن بادرة غضب أو شهوة هفوة بعد هفوة ، ثم لا يلبث أن يبادر إلى التوبة ومن ثم ذكر الله السوء بلفظ الإفراد هنا ، وقال فيمن لا تقبل توبتهم (يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إشعارا بأن التوبة إنما تقبل ممن تقع منهم الذنوب آحادا ويلمّون بها إلماما ، ولكنهم لا يصرّون عليها بل يبادرون إلى التوبة منها ، فلا تتمكن من أنفسهم ظلمة المعصية ولا تحيط بهم الخطيئة.

وما رواه أحمد عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» فالمراد منه أنه لا ينبغى لأحد أن يقنط من رحمة الله وييأس من قبول التوبة مادام حيا ، وليس معناه أنه لا خوف على العبد من التمادي فى الذنوب إذا هو تاب قبل الموت بساعة ، فان هذا مخالف لهدى الدين فى مثل قوله : «(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ولمثل قوله : «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ».

وقد قسموا التوابين طبقات :

(١) من هو سليم الفطرة عظيم الاستعداد للخير ، فهو إذا وقع فى خطيئة مرة كان له منها أكبر عبرة ، فيندم بعدها ويحمل نفسه على الفضيلة ويصرفها عن كل رذيلة.

(٢) من تكون داعية الشهوة أقوى فى نفسه وأرسخ فى قلبه ، فإذا أطاع نفسه وارتكب معصية قامت الخواطر الإلهية تحاربه وتوبخه حتى تنتصر عليه وتقهره قهرا تاما فلا يعود بعدها إلى اجتراح إثم ولا وقوع فى ذنب.

(٣) من تقوى نفسه بالمجاهدة على اجتناب كبار الإثم والفواحش ، لا على صغار الذنوب والآثام وهناك تكون الحرب فى نفوسهم سجالا بين ما يلمّون به من الصغائر وبين الخواطر الإلهية التي هى جند الإيمان.

٢٠٨

(٤) من يقع فى الذنب فيتوب ويستغفر ثم يعرض له مرة أخرى فيعود إليه ثم يلوم نفسه ويندم ويستغفر وهلم جرا ، وهؤلاء أدنى طبقات التوّابين ، والنفس الباقية أرخص عندهم من النفس الفانية ، وهم مع ذلك محل للرجاء ، لأن لهم زاجرا من أنفسهم يذكرهم دائما بالرجوع إلى الله عقب كل خطيئة ، وهكذا تكون الحرب سجالا بينهم وبين أنفسهم ؛ فإما أن تنتصر دواعى الخير فتصح توبتهم ، وإما أن تنكسر أمام جند الشهوة فتحيط بهم خطيئتهم ويكونوا من المصرّين الهالكين.

وخلاصة المعنى ـ إن التوبة التي أوجب الله على نفسه قبولها بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله ، ليست إلا لمن يجترح السيئة بجهالة تلابس نفسه من سورة غضب أو تغلب شهوة ، ثم لا يلبث أن يندم على ما فرط منه وينيب إلى ربه ويتوب ويقلع عن ذنبه.

(فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي فأولئك الذين فعلوا الذنوب بجهالة وتابوا بعد قريب من الزمن ، يتوب الله عليهم ، لأن الذنوب لم ترسخ فى نفوسهم ، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) وبهذا العلم بشئون عباده ومعرفة مصالحهم جعل التوبة مقبولة حتما ، لأنه يعلم ضعف عباده وأنهم لا يسلمون من عمل السوء ، فلو لم يشرع لهم التوبة لهلكوا باسترسالهم فى المعاصي والسيئات وتعمد اتباع الهوى وخطوات الشيطان لعلمهم أنهم هالكون لا مخالة ؛ فلا فائدة من جهاد النفس وتزكيتها.

أما وقد شرع الله بحكمته قبول التوبة فقد فتح لهم باب الفضيلة وهداهم إلى محو السيئة بالحسنة ، لكنه لا يقبل إلا التوبة النصوح دون حركات اللسان بالاستغفار والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات أو الأذكار مع الإصرار على الذنوب والأوزار ، ومن ثم جمع الله فى الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل.

وقد فعلت الأمم السالفة مثل هذا فاستثقلت التكاليف ، وفسقت عن أمر ربها

٢٠٩

واتبعت هواها وجعلت حظها من الدين مجموع حركات لسانية وبدنية لا تهذب خلقا ولا تصلح عملا ولا تمنع النفس من التمتع بشهواتها ، وقد اتبع كثير من المسلمين سنن من قبلهم وحذوا حذوهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.

وبعد أن بين حال من تقبل توبتهم ، ذكر حال أضدادهم الذين لا تقبل منهم التوبة فقال :

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي إن سنة الله قد مضت بأن التوبة لا تكون للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور الموت ، وصدور ذلك القول منهم ، لأن هؤلاء قد أحاطت بهم خطيئاتهم ولم تدع للأعمال الصالحة مكانا فى نفوسهم ، فهم أصروا عليها إلى أنّ حضرهم الموت ويئسوا من الحياة التي يتمتعون بها ، وحينئذ يقول أحدهم : إنى تبت الآن وما هو من التائبين بل من المدّعين الكاذبين.

والخلاصة ـ إن التوبة لمثل هؤلاء ليست مقبولة حتما ، فأمرهم مفوض إلى الله تعالى وهو العليم بحالهم ، وحديث قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم ـ المراد منه حصول التوبة النصوح ، بأن يدرك المذنب قبح ما كان قد عمله من السيئات ويندم على مزاولتها ويزول حبه لها بحيث لو عاش لما عاد إليها ، وقلما يحصل مثل هذا الإدراك للمصرّ على السيئات المستأنس بها فى عامة أيام الحياة ، وإنما الذي يحصل له إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها عند الموت.

(وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أي لا تقبل توبة لهؤلاء ولا لهؤلاء ، وقد سوّى الله بين الذين سوّفوا توبتهم إلى أن حضر الموت وبين الذين ماتوا على الكفر فى أن توبتهم لا تقبل ، فكما أن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين ، كذلك المسوّف إلى حضرة الموت ، فكل منهما جاوز الحد المضروب للتوبة ، إذ هى لا تكون إلا عند التكليف والاختيار.

٢١٠

(أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أعتدنا هيأنا وأعددنا ، والأليم المؤلم الموجع : أي هذان الفريقان اللذان استعبدهما سلطان الشهوة وخرجا على سنة الفطرة وهداية الشريعة أعددنا لهم العذاب الموجع فى الدار الآخرة جزاء وفاقا لما اكتسبت أيديهم من السيئات مع إصرارهم عليها حتى الممات ؛ إذ أنهم أفسدوا قلوبهم ، ودسّوا نفوسهم ، فصارت تهبط بهم خطاياهم إلى الدرك الأسفل من الهوان ، وتعجز عن الصعود إلى معاهد الكرامة والرضوان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

تفسير المفردات

العضل : التضييق والشدة ، ومنه الداء العضال الشديد الذي لا نجاة منه ، والفاحشة : الفعلة الشنيعة الشديدة القبح ، والمبينة : الظاهرة الفاضحة ، والمعروف : ما تألفه الطباع ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا المروءة ، والبهتان : الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويسكته متحيرا ، والإثم : الحرام ، أفضى : أي وصل إليها الوصول الخاص الذي يكون بين الزوجين ، فيلابس كل منهما الآخر حتى كأنهما شىء واحد ، والميثاق الغليظ : العهد المؤكد الذي يربطكم بهن أقوى رباط وأحكمه.

٢١١

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه فيما تقدم عن عادات الجاهلية فى أمر اليتامى وأموالهم أعقبه بالنهى عن الاستنان بسنتهم فى النساء وأموالهن ، وقد كانوا يحتقرون النساء ويعدونهن من قبيل المتاع حتى كان الأقربون يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله ، فحرم الله عليهم هذا العمل ، روى البخاري وأبو داود أنه كان إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية فى ذلك. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : جاءت كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تحت أبى قيس بن الأسلت فتوّفى عنها فجنح عليها (ضَيْقٍ) ابنه وقالت له : لا أنا ورثت زوجى ولا أنا تركت فأنكح فنزلت الآية.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي لا يحل لكم أيها الذين آمنوا بالله ورسوله أن تسيروا على سنة الجاهلية فى هضم حقوق النساء فتجعلوهن ميراثا لكم كالأموال والعبيد وتتصرفوا فيهن كما تشاءون ، وهنّ كارهات لذلك ، فإن شاء أحدكم تزوج امرأة من يموت من أقاربه ، وإن شاء زوجها غيره ، وإن شاء أمسكها ومنعها الزواج.

(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) أي لا يحل لكم إرث النساء ولا التضييق عليهن ومضارتهن ليكرهنكم ويضطرون إلى الافتداء منكم بالمال من ميراث وصداق ونحو ذلك ، فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حسنها ويزوجون من لا تعجبهم أو يمسكونها حتى تفتدى بما كانت ورثت من قريب الوارث. أو ما كانت أخذت من صداق ونحوه أو كل هذا ، وربما كلفوها الزيادة إن علموا أنها تستطيعها.

٢١٢

أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتى بالشهود فيكتب ذلك عليها ، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها ، وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا تعضلوهن فى أي حال إلا فى الحال التي يأتين فيها بالفاحشة المبينة دون الظنة والشبهة ، فإذا نشزن عن طاعتكم وساءت عشرتهن ولم ينفع معهنّ التأديب ، أو تبين ارتكابهن للزنا أو السرقة أو نحو ذلك من الأمور الفاحشة الممقوتة عند الناس ، فلكم حينئذ أن تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره من المال ، لأن الفحش قد أتى من جانبها ، وإنما اشترط فى الفاحشة أن تكون مبينة : أي ظاهرة فاضحة لصاحبها ، لأنه ربما ظلم الرجل المرأة بإصابتها الهفوة الصغيرة أو بمجرد سوء الظن والتّهمة ؛ فمن الرجال الغيور السيّء الظن الذي يؤاخذ بأتفه الأمور ويعده عظيما ، وإنما أبيح للرجل أن يضيق على امرأته إذا أتت بهذه الفاحشة المبينة ، لأنها ربما كرهته ومالت إلى غيره ، فتؤذيه بفاحش القول أو الفعل ليملها ويسأم معاشرتها فيطلقها فتأخذ ما كان أعطاها وتتزوج غيره وتتمتع بمال الأول ، وربما فعلت مع الثاني ما فعلت مع الأول ، فإذا علم النساء أن العضل والتضييق بيد الرجال ومما أبيح لهم إذا هنّ أهنّهم ، فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها والاحتيال بها على أرذل أنواع الكسب.

(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وعليكم أن تحسنوا معاشرة نسائكم فتخالطوهنّ بما تألفه طباعهن ولا يستنكره الشرع ولا العرف ، ولا تضيقوا عليهن فى النفقة ولا تؤذوهن بقول ولا فعل ولا تقابلوهن بعبوس الوجه ولا تقطيب الجبين.

وفى كلمة (المعاشرة) معنى المشاركة والمساواة أي عاشروهن بالمعروف وليعاشرنكم كذلك ، فيجب أن يكون كل من الزوجين مدعاة لسرور الآخر وسبب هناءته وسعادته

٢١٣

فى معيشته ومنزله : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً».

(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) أي فإن كرهتموهن لعيب فى أخلاقهن أو دمامة فى خلقهن مما ليس لهن فيه كسب ، أو لتقصير فى العمل الواجب عليهن كخدمة البيت والقيام بشئونه مما لا يخلو عن مثله النساء فى أعمالهن ، أو لميل منكم إلى غيرهن ، فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن ، فربما كرهت النفس ما هو أصلح فى الدين وأوفى إلى الخير ، ومن ذلك :

١) الأولاد النجباء فربّ امرأة يملّها زوجها ويود فراقها ثم يجيئه منها من تقرّبه عينه من الأولاد النجباء فيعلو قدرها عنده بذلك.

٢) أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته ، فتكون من أعظم أسباب سعادته وسروره فى انتظام معيشته وحسن خدمته ، ولا سيما إذا أصيب بالأمراض أو بالفقر والعوز فتكون خير سلوى وعون فى هذه الأحوال ، فيجب على الرجل أن يتذكر مثل ذلك ، كما يذكر أنه قلما يخلو من عيب تصبر عليه امرأته فى الحال والاستقبال.

وقد جاء قوله «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» فى سياق حديث النساء دستورا إذا نحن اتبعناه كان له الأثر الصالح فى جميع أعمالنا وهدانا إلى الرشد فى جميع شئوننا ، فكثير مما يكرهه الإنسان يكون له فيه الخير ، ومتى جاء ذلك الخير ظهرت فائدة ذلك الشيء المكروه ، والتجارب أصدق شاهد على ذلك ؛ فالقتال لأجل حماية الحق والدفاع عنه يكرهه الطبع لما فيه من المشقة ، لكن فيه إظهار الحق ونصره ورفعة أهله وخذلان الباطل وحزبه ، إلى أن الصبر على احتمال المكروه يمرن النفس على احتمال الأذى ويعوّدها تحمل المشاق فى جسيم الأمور.

والخلاصة ـ إن الإسلام وصىّ أهله بحسن معاشرة النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج ، رجاء أن يكون فيهن خير ، ولا يبيح عضلهن وافتداءهن أنفسهن بالمال

٢١٤

إلا إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببا فى مهانة الرجل واحتقاره ، أو إذا خافا ألا يقيما حدود الله ، وفيما عدا ذلك يجب عليه إذا أراد فراقها أن يعطيها جميع حقوقها وهذا ما أشار إليه بقوله :

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي وإذا رغبتم أيها الأزواج فى استبدال زوج جديدة مكان زوج سابقة كرهتموها لعدم طاقتكم الصبر على معاشرتها وهى لم تأت بفاحشة مبينة ، وقد كنتم أتيتموها المال الكثير مقبوضا أو ملتزما دفعه إليها فصار دينا فى ذمتكم فلا تأخذوا منه شيئا ، بل عليكم أن تدفعوه لها ، لأنكم إنما استبدلتم غيرها بها لأغراضكم ومصالحكم بدون ذنب ولا جريرة تبيح أخذ شىء منها ، فبأى حق تستحلون ذلك وهى لم تطلب فراقكم ولم تسىء إليكم لتحملكم على طلاقها؟ وإرادة الاستبدال ليست شرطا فى عدم حلّ أخذ شىء من مالها إذا هو كره عشرتها وأراد الطلاق ، لكنه ذكر لأنه هو الغالب فى مثل هذا الحال ، ألا ترى أنه لو طلقها وهو لا يريد تزوج غيرها ، لأنه اختار الوحدة وعدم التقيد بالنساء وحاجتهم الكثيرة فإنه لا يحل له أخذ شىء من مالها.

ثم أنكر عليهم هذا الفعل ووبخهم عليه أشد التوبيخ فقال :

(أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً؟) أي أتأخذونه باهتين آثمين ، وقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشترى نفسها منه بالمهر الذي دفعه إليها.

وزاده إنكارا آخر مبالغة فى التنفير من ذلك فقال :

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي إنّ حال هؤلاء الذين يستحلون أخذ مهور النساء إذا أرادوا مفارقتهن بالطلاق لا لذنب جنينه ولا لإثم اجترحنه من الإتيان بفاحشة مبينة أو عدم إقامة حدود الله ، وإنما هو الرأى والهوى وكراهة معاشرتهن ـ عجيب أيّما عجب ، فكيف يستسيغون أخذ ذلك منهنّ بعد أن تأكدت الرابطة بين الزوجين بأقوى رباط حيوىّ بين البشر ، ولابس كل منهما الآخر

٢١٥

حتى صار أحدهما من الآخر بمنزلة الجزء المتمم لوجوده ، فبعد أن أفضى كل منهما إلى الآخر إفضاء ولابسه ملابسة يتكون منها الولد ، يقطع تلك الصلة العظيمة ويطمع فى مالها وهى المظلومة الضعيفة ، وهو القادر على اكتساب المال بسائر الوسائل التي هدى الله إليها البشر.

(وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قال قتادة : هذا الميثاق هو ما أخذ الله للنساء على الرجال بقوله (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقال الأستاذ الإمام : إن هذا الميثاق لا بد أن يكون مناسبا للإفضاء فى أن كلا منهما شأن من شئون الفطرة السليمة وهو الذي أشارت إليه الآية الكريمة «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هى أقوى ما تعتمد عليها المرأة فى ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء وتسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة أقوى مما يكون بين ذوى القربى ، ثقة منها بأن صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة.

هذه الثقة وذلك الشعور الفطري الذي أودع فى المرأة وجعلها تحسّ بصلة لم تعهد من قبل لا تجد مثلها لدى أحد من الأهل ، وبها تعتقد أنها بالزواج مقبلة على سعادة ليس وراءها سعادة فى الحياة ، هذا هو المركوز فى أعماق النفوس ، وهذا هو الميثاق الغليظ ، فما قيمة من لا يفى بهذا الميثاق ، وما هى مكانته من الإنسانية؟ اه بتصرف.

وقد استدلوا بذكر القنطار على جواز التغالى فى المهور. وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى على المنبر أن يزاد فى الصداق على أربعمائه درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت الله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال : اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : إنى كنت نهيتكم أن تزيدوا فى صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطى من ماله فله ما أحبّ.

٢١٦

هذا ، وإن الشريعة لم تحدد مقدر الصداق بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم فى الغنى والفقر فكلّ يعطى بحسب حاله ، ولكن جاء فى السنة الإرشاد إلى اليسر فى ذلك وعدم التغالى فيه ، فمن ذلك ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها».

وإن التغالى فى المهور الآن قد صار من أسباب قلة الزواج ، وقلة الزواج تفضى إلى كثرة الزنا والفساد ، والغبن أخيرا على النساء أكثر ، وإنك لترى هذه العادة متمكنة لدى بعض الناس ، حتى إن ولى المرأة ليمتنع عن تزويج بنته للكفء الذي لا يرجى من هو خير منه إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقا بكرامته ، ويزوجها لمن هو دونه دينا وخلقا ومن لا يرجو لها سعادة عنده إذا هو أعطاه الكثير الذي يراه محققا لأغراضه وهكذا تتحكم التقاليد والعادات حتى تفسد على الناس سعادتهم وتقوّض نظم بيوتهم وهم لها منقادون بلا تفكير فى العواقب.

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣))

٢١٧

تفسير المفردات

سلف : أي مضى ، فاحشة : أي شديد القبح ، مقتا : أي ممقوتا مبغوضا عند دوى الطباع السليمة ، ومن ثم كانوا يسمونه نكاح المقت ، ويسمى الولد منه مقيتا : أي مبغوضا محتقرا ، وساء سبيلا : أي بئس طريقا ذلك الطريق الذي اعتادوا سلوكه فى الجاهلية وبئس من يسلكه ، لم يزده السير فيه إلا قبحا ، والجناح الإثم والتضييق.

المعنى الجملي

بعد أن بيّن فى أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد من يحل من النساء والشرط فى ذلك ، وبين حكم استبدال زوج مكان زوج وما يجب من المعروف فى معاشرتهن ـ وصل هذا ببيان ما يحرم نكاحه منهن.

الإيضاح

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) ذكر الله هذا النكاح أوّلا ولم يذكره مع سائر المحرمات فى الآية التالية لأنه كان فاشيا فى الجاهلية ، وقد ذمه الله أقبح ذمّ فسماه فاحشة وجعله مبغوضا أشد البغض. أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال : كان الرجل إذا توفّى عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمّه أو ينكحها من شاء ، فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورّثها من المال شيئا ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت (وَلا تَنْكِحُوا) الآية ، ونزلت أيضا (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) إلخ. والمراد بالنكاح العقد كما قال ابن عباس ، فقد روى ابن جرير والبيهقي عنه أنه قال : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهى حرام ، والمراد من الآباء ما يشمل الأجداد إجماعا.

٢١٨

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لكن ما سلف من ذلك لا مؤاخذة عليه.

والخلاصة ـ إنكم تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفوّ عنه.

(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) أي إن نكاح أزواج الآباء تمجّه الأذواق السليمة ، وتؤيد ذلك الشريعة التي هدى الله الناس بها ، فهو قبيح محتقر والسالك فى طريقه مزدرى عند ذوى العقول الراجحة.

قال الإمام الرازي ـ القبح ثلاثة أصناف : عقلىّ وشرعى وعادى ، وقد وصف الله النكاح بكل ذلك ، فقوله سبحانه (فاحِشَةً) إشارة إلى الأول ، وقوله (مَقْتاً) إشارة إلى الثاني ، وقوله (وَساءَ سَبِيلاً) إشارة إلى الثالث.

بعد هذا بين الله أنواع المحرمات لأسباب وعلل تنافى ما فى النكاح من الصلة بين بعض البشر وبعض ، وهى عدة أقسام :

القسم الأول منها ما يحرم من جهة النسب ، وهو أنواع :

١) نكاح الأصول وإليه الإشارة بقوله :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) والمراد بالأم ما يشمل الجدات : أي إن الله قد حرم عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم والمراد أنه حكم الآن بهذا التحريم والمنع.

٢) نكاح الفروع وذلك قوله :

(وَبَناتُكُمْ) والمراد بهن ما يشمل بنات أصلابنا أو بنات أولادنا ممن كنا سببا فى ولادتهن وأصولا لهن.

٣) نكاح الحواشي القريبة ، وذلك ما عناه سبحانه بقوله :

(وَأَخَواتُكُمْ) سواء أكن شقيقات لكم ، أم كن لأم أو لأب.

(٤ و ٥) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الأب والأم وإليهما الإشارة بقوله :

٢١٩

(وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) والمراد بهما الإناث من جهة العمومة ومن جهة الخئولة فيشمل أولاد الأجداد وإن علوا ، وأولاد الجدات وإن علون.

٦) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الإخوة ، وذلك قوله :

(وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) من جهة أحد الأبوين أو كليهما.

القسم الثاني ما حرم من جهة الرضاعة ، وإليه الإشارة بقوله :

(وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة ، أمّا للرضيع ، وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاع كجهة النسب ، وقد وضحت السنة ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة «إنها لا تحل لى ، إنها ابنة أخى من الرضاعة ، ويحرم من الرضاعة ما يحرم النسب» رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ،

وعلى ذلك جرى المسلمون جيلا بعد جيل فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله وفروعه ولو من غير المرضعة لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه الرضيع ، وقد روى البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما ، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ (قال لا ، اللقاح واحد).

وقد غلب على الناس التساهل فى أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة أو من عدة نسوة ولا يهتمون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم فى ذلك من الأحكام كحرمة النكاح وحقوق القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدرى.

وظاهر الآية أن قليل الرضاعة ككثيرها ويروى ذلك عن على وابن عباس والحسن والزهري وقتادة ، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك. وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

٢٢٠