تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

«اللهم إن هذا قسمى فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» يريد ميل القلب ، وقد استبان لك مما سلف أن إباحة تعدد الزوجات مضيق فيها أشد التضييق ، فهى ضرورة تباح لمن يحتاج إليها بشرط الثقة باقامة العدل والأمن من الجور.

وإن من يرى الفساد الذي يدب فى الأسر التي تتعدد فيها الزوجات ليحكم حكما قاطعا بأن البيت الذي فيه زوجتان أو أكثر لرجل واحد لا تستقيم له حال ولا يستتب فيه نظام.

فانك ترى إحدى الضرتين تغرى ولدها بعداوة إخوته ، وتغرى زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها ، وكثيرا ما يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد فى الأسرة كلها.

إلى أن ذلك ربما جر إلى السرقة والزنا والكذب والقتل فيقتل الولد والده والوالد ولده والزوجة زوجها ، والعكس بالعكس كما دونت ذلك سجلات المحاكم.

فيجب على رجال القضاء والفتيا الذين يعلمون أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وأن من أصول الدين منع الضرر والضرار ، أن ينظروا إلى علاج لهذه الحال ويضعوا من التشريع ما يكفل منع هذه المفاسد على قدر المستطاع.

مزايا تعدد الزوجات عند الحاجة إليه

الأصل فى السعادة الزوجية أن يكون للرجل زوج واحدة ، وذلك منتهى الكمال الذي ينبغى أن يربى عليه الناس ويقنعوا به ، لكن قد يعرض ما يدعو إلى مخالفة ذلك لمصالح هامة تتعلق بحياة الزوجين ، أو حاجة الأمة فيكون التعدد ضربة لازب لا غنى عنه ، ومن ذلك :

(١) أن يتزوج الرجل امرأة عاقرا وهو يود أن يكون له ولد ، فمن مصلحتها أو مصلحتهما معا أن تبقى زوجا له ويتزوج بغيرها ، ولا سيما إذا كان ذا جاه وثروة كأن يكون ملكا أو أميرا.

١٨١

(٢) أن تكبر المرأة وتبلغ سن اليأس ويرى الرجل حاجته إلى العقب ، وهو قادر على القيام بنفقة غير واحدة وكفاية الأولاد الكثيرين وتعليمهم.

(٣) أن يرى الرجل أن امرأة واحدة لا تكفيه لإحصانه لأن مزاجه الخاص يدفعه إلى الحاجة إلى النساء ، ومزاجها بعكس هذا ، أو يكون زمن حيضها طويلا يأخذ جزءا كبيرا من الشهر فهو حينئذ أمام أحد أمرين : إما التزوج بثانية ، وإما الزنا الذي يضيع الدين والمال والصحة ، ويكون هذا شرا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما كما هو شرط الإباحة فى الإسلام.

(٤) أن تكثر النساء فى الأمة كثرة فاحشة كما يحدث عقب الحروب التي تجتاح البلاد فتذهب بالألوف المؤلفة من الرجال ، فلا وسيلة للمرأة فى التكسب فى هذه الحال إلا ببيع عفافها ، ولا يخفى ما بعد هذا من شقاء على المرأة التي تقوم بالإنفاق على نفسها وعلى ولد ليس له والد يكفله ، ولا سيما عقب الولادة ومدة الرضاعة.

والمشاهد أن اختلاط النساء بالرجال فى المعامل ومحال التجارة وغيرها من الأماكن العامة قد جر إلى كثير من هتك الأعراض والوقوع فى الشقاء والبلاء حتى كتبت غير واحدة من الكاتبات الإنجليزيات ، وأبانت أن هذا التدهور الخلقي لا علاج له إلا بتعدد الزوجات ، مع أن هذا ضد مصلحة المرأة ، وهى تنفر منه بمقتضى شعورها ووجدانها ، وهاك ما قالته إحداهن فى بعض جرائدهن بإيجاز وتلخيص :

لقد كثرت الشاردات من بناتنا وقل الباحثون عن أسباب هذا البلاء ، وإنى لأنظر إليهن وقلبى ينفطر أسى وحزنا عليهن ، وماذا يفيد بثي وحزنى وإن شاركنى فيه الناس جميعا ، لا فائدة إلا العمل على ما يمنع هذه الحال ، وهو كما رأى (تومس) إباحة التزوج بأكثر من واحدة وبهذه الوسيلة تصبح بناتنا ربات بيوت.

إذ لم يجر إلى هذا البلاء إلا إجبار الأوربى على الاكتفاء بامرأة واحدة ، فهو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى أعمال الرجال ولا بد أن يتفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة ، فأى ظن وحدس يحيط بعدد الرجال

١٨٢

المتزوجين الذين لهم أولاد من السفاح وقد أصبحوا عالة وعارا على المجتمع ولو أبيح التعدد لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من عذاب ولسلم عرضهن وعرض أولادهن من فداحة الحال التي نراها الآن.

ونشرت كاتبة أخرى (مس إنى رود) فى جريدة أخرى تقول :

لأن يشتغل بناتنا فى البيوت خوادم أو شبه خوادم خير لهن وللمجتمع من اشتغالهن فى المعامل حيث تلوّث البنت بأذران الرذيلة التي تبقى لا صقة بها مدى حياتها.

ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة ، والخادم والرقيق ينعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء ، وإنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطتهن الرجال.

فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها وتقوم بأعمال البيت وتترك أعمال الرجال للرجال فذلك أضمن لعفافها وهو الكفيل بسعادتها اه.

وصفوة القول : إن تعدد الزوجات يخالف المودة والرحمة وسكون النفس إلى المرأة وهى أركان سعادة الحياة الزوجية ، فلا ينبغى لمسلم أن يقدم عليه إلا ضرورة مع الثقة بما أوجبه الله من العدل ، وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته.

حكمة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

راعى النبي صلى الله عليه وسلم المصيحة فى اختيار كل زوجة من زوجاته ، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم وعلم أتباعه احترام النساء وإكرام كرائمهن والعدل بينهن وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم الأحكام الخاصة بالنساء مما ينبغى أن يعلمنه منهن لامن الرجال ، ولو كان قد ترك واحدة ما كان فيها الغناء كما لو ترك التسع.

١٨٣

وقصارى القول إنه عليه السلام ما أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء والمترفون من التمتع بالنساء ، إذ لو كان قد أراد ذلك لاختارهن من حسان الأبكار لا من الكهلات الثيبات كما قال لمن اختار ثيبا «هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ، وتضاحكها وتضاحكك» رواه الشيخان.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الخطاب للأزواج أي وأعطوا النساء اللواتى تعقدون عليهن المهور عطاء هبة يكون رمزا للمودة التي ينبغى أن تكون بينكما ، وآية من آيات المحبة ، ودليلا على وثيق الصلة والرابطة التي تجب أن تكنفكما وتحيط بسماء المنزل الذي تحلان فيه ، وقد جرى عرف الناس بعدم الاكتفاء بهذا العطاء فتراهم يردفونه بأصناف الهدايا والتحف من مآكل وملابس ومصوغات إلى نحو ذلك ، مما يعبر عن حسن تقدير الرجل للمرأة التي يريد أن يجعلها شريكته فى الحياة.

(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) أي فإن طابت نفوسهن باعطائكم شيئا من الصداق من غير ضرار ولا خديعة فكلوه هنيئا مريئا ولا ذنب عليكم ولا إثم فى أخذه.

ومن ثم لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به فاذا طلب منها شيئا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب فلا يحل له ، ألا ترى أنّ الله تعالى نهى عن أخذ شىء من المرأة فى طور المفارقة فقال : «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» فالتحذير من أخذه فى طور الرغبة والتحبب وإظهار القدرة على ما يجب عليه من أعباء الزوجية من كفالة المرأة والإنفاق عليها يكون أشد وآكد ، ولكن حب المل جعل الرجال يماكسون فى المهر كما يماكسون فى سلع التجارة ، وصار حبهم للمحافظة على الشرف والكرامة دون حبهم للدرهم والدينار.

١٨٤

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

تفسير المفردات

السفهاء واحدهم سفيه : وهو المبذّر للمال المنفق له فيما لا ينبغى ، وأصل السفه الخفة والاضطراب ، ومنه قيل زمان سفيه : إذا كان كثير الاضطراب ، وثوب سفيه : ردىء النسج ، ثم استعمل فى نقصان العقل فى تدبير المال وهو المراد هنا ، قياما : أي تقوم بها أمور معايشكم ، وتمنع عنكم الفقر. قال الراغب : القيام والقوام ما يقوم به الشيء ويثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به ، وارزقوهم : أي وأعطوهم ، والقول المعروف : ما تطيب به النفوس وتألفه كإفهام السفيه أن المال ماله لا فضل لأحد عليه ، آنستم منهم رشدا : أي أبصرتم منهم حسن التصرف فى الأموال ، الإسراف : مجاوزة الحد فى التصرف فى المال ، والبدار : المبادرة والمسارعة إلى الشيء ، يقال بادرت إلى الشيء وبدرت إليه ، فليستعفف : أي فليعفّ ، والعفة : ترك ما لا ينبغى من الشهوات ، والحسيب : الرقيب.

المعنى الجملي

بعد أن أمرنا الله تعالى فى الآيات السالفة بإيتاء اليتامى أموالهم ، وبإيتاء النساء مهورهن أتى فى هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين معا وهو ألا يكون كل منهما سفيها ، مع بيان أنهم يرزقون فيها ، ويكسون مادامت فى أيديهم مع قول المعروف لهم حتى تحسن أحوالهم ، وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد ، وأنه لا ينبغى الإسراف

١٨٥

فى أكل أموال اليتامى ، فمن كان من الأولياء غنيا فليعف عن الأكل من أموالهم ، ومن كان فقيرا فليأكل بما يبيحه الشرع ، ويستجيزه أرباب المروءة.

الإيضاح

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) هذا خطاب لمجموع الأمة ، والنهى شامل لكل مال يعطى لأىّ سفيه ، أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ ، وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف فى ماله فامنعوه منه لئلا يضيعه ، واحفظوه له حتى يرشد.

وإنما قال أموالكم ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء والمال مال السفهاء الذين فى ولايتهم ، لينبهنا إلى أنه إذا ضاع هذا المال وجب على الولي أن ينفق عليه من مال نفسه ، فإضاعته مفضية إلى إضاعة شىء من مال الولي فكأن ماله عين ماله ، وإلى أن الأمة متكافلة فى المصالح ، فمصلحة كل فرد فيها كأنها مصلحة للآخرين.

ومعنى جعل الأموال قياما للناس ، أن بها تقوم وتثبت منافعهم ومرافقهم ، فمنافعهم الخاصة ، ومصالحهم العامة لا تزال قائمة ثابتة مادامت أموالهم فى أيدى الراشدين المقتصدين منهم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها ، ولا يتجاوزون حدود المصلحة فى الإنفاق ، وفى هذا حث عظيم على الاقتصاد بذكر فوائده ، وتنفير من الإسراف والتبذير ببيان مغبته ، فإن الأموال إذا وقعت فى أيدى السفهاء المسرفين فات ما كان من تلك المنافع قائما ، ومن ثم وصف الله المؤمنين بقوله : «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً». وقد ورد فى السنة النبوية حثّ كثير على الاقتصاد ، من ذلك مارواه أحمد عن ابن مسعود : «ما عال من اقتصد». ومارواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر : «الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة ، والتودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن العقل نصف العلم».

وإن من أشد العجب أن يكون حال المسلمين اليوم ما نرى من الإسراف والتبذير ، وكتابهم يهديهم إلى ما للاقتصاد من فوائد ، وما للتبذير من مضار ، إلى ما للمال فى هذا الزمن من المنزلة التي لا يقدر قدرها حتى صارت جميع المرافق موقوفة

١٨٦

على المال ، وأصبحت الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد وليس فى أيديها المال مستذلة مستعبدة للأمم الغنية ذات البراعة فى الكسب والإحسان فى الاقتصاد وجمع المال.

ولا سبب لهذا إلا أنا نبذنا هدى القرآن وراء ظهورنا ، وأخذنا بآراء الجاهلين الذين لبسوا على الناس ونفثوا سمومهم وبالغوا فى التزهيد والحث على إنفاق ما تصل إليه الأيدى ، مع أن السلف الصالح كانوا من أشد الناس محافظة على ما فى أيديهم ، وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الكسب الحلال ، وليت هذا التزهيد أتى بالغرض المسوق لأجله من الترغيب فى الآخرة والعمل لها ، لكنهم زهدوهم فى الدنيا وقطعوهم عن الآخرة فخسروهما معا ، وما ذاك إلا لجهلهم بهدى الإسلام وهو السعى للدنيا والعمل للآخرة كما ورد فى الأثر «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

(وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) الرزق يعم وجوه الإنفاق جميعها كالأكل والمبيت والزواج والكسوة ، وإنما خص الكسوة بالذكر ، لأن الناس يتساهلون فيها أحيانا ، وقال (فيها) ولم يقل منها إشارة إلى أن الأموال تتخذ مكانا للرزق بالتجارة فيها فتكون النفقات من الأرباح لا من صلب المال حتى لا يأكلها الإنفاق ، أي أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال السفهاء وتثميرها حتى كأنها أموالكم ، عليكم أن تنفقوا عليهم فتقدموا لهم كفايتهم من الطعام والثياب ونحو ذلك.

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي فليقل كل ولى للمولى عليه إذا كان صغيرا : المال مالك وما أنا إلا خازن له وإذا كبرت رد إليك ؛ وإذا كان سفيها وعظه ونصحه ، ورغبه فى ترك التبذير والإسراف ، وعرفه أن عاقبة ذلك الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى نحو ذلك ، كما يعلمه كل ما يوصله إلى الرشد ، وبذا قد تحسن حاله ، فربما كان السفه عارضا لا فطريا ، فبالنصح والإرشاد والتأديب يزول ذلك العارض ويصبح رشيدا.

١٨٧

وأين هذا مما يفعله الأولياء والأوصياء من أكل أموال السفهاء ومدهم فى غيهم وسفههم حتى يحولوا بينهم وبين أسباب الرشد ، وما مقصدهم من ذلك إلا بقاء الأموال تحت أيديهم يتمتعون بها ، ويتصرفون فيها بحسب أهوائهم وشهواتهم.

وبعد أن أمر سبحانه بإيتاء اليتامى أموالهم وكان هذا مجملا ذكر كيفية ذلك الإيتاء ووقته فقال :

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ابتلاء اليتيم واختباره يكون بإعطائه شيئا من المال يتصرف فيه ، فإن أحسن كان راشدا ، إذ لا معنى للرشد هنا إلا حسن التصرف وإصابة الخير فيه ، وهو نتيجة صحة العقل وجودة الرأى.

وبلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يستعد فيها المرء للزواج وهو بلوغ الحلم ، وهو فى هذه الحال تتوجه نفسه إلى أن يكون زوجا وأبا ورب أسرة ، ولا يتم له ذلك إلا بالمال ، ومن ثم وجب إيتاؤه إياه إلا إذا بلغ سفيها وخيف أن يضيعه.

والمعنى ـ أيها الأولياء ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ وهو الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح ، فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، وإلا فاستمروا على الابتلاء حتى تأنسوه منهم ، ويرى أبو حنيفة دفع مال اليتيم إليه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد.

(وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أي ولا تأكلوا أموال اليتامى مسرفين فى الإنفاق منها ولو على اليتيم نفسه ، ولا مبادرين كبرهم إليها أي ولا مسابقين الكبر فى السن التي بها يأخذونها منكم ، فأنتم تطلبون أكل هذا المال كما يطلب كبر السن صاحبه ؛ فالسابق منكما هو الذي يظفر به ، فبعض الأولياء الخربى الذمة يستعجلون ببعض التصرفات التي لهم فيها منفعة وليس لليتيم فيها ذلك حتى لا تفوتهم إذا كبر اليتيم وأخذ ماله.

ولما كانت هاتان الحالان ـ الإسراف ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف ـ من مواطن الضعف التي تعرض للانسان نهى الله عنهما ونبه

١٨٨

الأولياء إلى خطرهما حتى يراقبوا ربهم إذا عرضتا لهم ، فقد تخادع الإنسان نفسه فى حد الإسراف وخفاء وجه منفعة الولي فى المسابقة إلى بعض الأعمال فى مال اليتيم ، ويغشّها إذا لم يمكن أن يمارى فى ذلك مراء ظاهرا تتضح فيه خيانته.

أما الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذها عند البلوغ ، فقد ذكر الله حكمه بقوله :

«وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» أي فمن كان منكم غنيا غير محتاج إلى شىء من مال اليتيم الذي تحت ولايته فليعفّ عن الأكل من ماله ، ومن كان فقيرا لا يستغنى عن الانتفاع بشىء من مال اليتيم الذي يشغل بعض وقته فى تثميره وحفظه فليأكل منه بالمعروف ، وهو ما يبيحه الشرع ، ولا يستنكره أرباب المروءة ، ولا يعدونه خيانة وطمعا.

قال ابن جرير : إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالا للولى ، فليس له أن يأكل منه شيئا ، ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة كما يستقرض له ، وله أن يؤاجر نفسه لليتيم بأجرة معلومة إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك كما يستأجر له غيره من الأجراء غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر ، وهكذا الحكم فى أموال المجانين والمعاتيه.

وقد روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس لى مال وإنى ولىّ يتيم فقال : «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثّل مالا ومن غير أن تقى مالك بماله».

والحكمة فى هذا أن اليتيم يكون فى بيت الولي كولده ، والخير له فى تربيته أن يخالط الولىّ وأهله فى المؤاكلة والمعاشرة ، فإذا كان الولي غنيا ولا طمع له فى ماله كانت المخالطة مصلحة لليتيم ، وإن كان ينفق فيها شىء من ماله فبقدر حاجته ، وإن كان فقيرا فهو لا يستغنى عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من مال اليتيم الغنى الذي فى حجره ، فإن أكل من طعامه ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من صلب

١٨٩

المال شيئا ولا متأثل لنفسه منه عقارا ولا مالا آخر ولا منفق ماله فى مصالحه ومرافقه كان بعمله هذا آكلا بالمعروف.

(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أي فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم فأشهدوا عليهم بقبضها وبراءة ذممكم منها ، كى لا يكون بينكم نزاع.

وهذا الإشهاد واجب عند الشافعية والمالكية ، إذ أن تركه يؤدى إلى التخاصم والتقاضي كما هو مشاهد ، وجعله الحنفية مندوبا لا واجبا.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي وكفى الله رقيبا عليكم يحاسبكم على ما تسرّون وما تعلنون ، وقد جاء هذا بعد الأمر بالإشهاد ليرشدنا إلى أن الإشهاد وإن أسقط الدعوى بالمال عند القاضي فهو لا يسقط الحق عند الله إذا كان الولي خائنا ، فإن الله لا يخفى عليه ما يخفى على الشهود والحكام.

وعلى الجملة فإنك ترى أن الله تعالى حاط أموال اليتامى بضروب من الصيانة والحفظ ، فأمر باختبار اليتيم قبل دفع ماله إليه ، ونهى عن أكل شىء منه بطرق الإسراف ومبادرة كبره ، وأمر بالإشهاد عليه عند الدفع ، ونبّه إلى مراقبة الله تعالى فى جميع التصرفات الخاصة به.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

١٩٠

تفسير المفردات

مفروضا : أي محتوما لا بد لهم أن يأخذوه. الخشية : الخوف فى محل الأمن ، والسديد : العدل والصواب والسداد (بالكسر) ما يسد به الشيء كالثغر (موضع الخوف من العدو) والقارورة ، وورد قولهم : فيها سداد من عوز بكسر السين : أي فيها الغناء والكفاية ، وصلى اللحم صليا شواه ، فإذا أراد إحراقه يقال أصلاه إصلاء وصلّاه تصلية ، وصلى يده بالنار : أدفأها ، واصطلى : استدفأ ، والسعير : النار المستعرة المشتعلة ، يقال سعرت النار وسعّرتها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السابقة حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا ، ومنع أكل مهور النساء أو تزويجهن بغير مهر.

ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء ، وقد كانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار ، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة ، ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى ، لأن اليتيم مرهف الحسّ يألم للكلمة تهينه ، ولا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء ، وقلما يوجد يتيم لا يمتهن ولا يقهر بالسوء من القول ، ثم طلب الإشفاق عليهم ومعاملتهم بالحسنى ، فربما يترك الميت ذرية ضعافا يود أن غيره يعاملهم بمثل هذه المعاملة ، وبعدئذ شدد فى الوعيد ، ونفرّ من أكل أموال اليتامى ظلما وجعل أكله كأكل النار.

وقد روى فى سبب نزول الآية «أن أوس بن الصامت الأنصاري توفّى وترك امرأته أم كحلة وثلاث بنات له منها فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية ، فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد الفضيح (مسجد بالمدينة كان يسكنه أهل الصفّة) فشكت إليه أن زوجها أوسا قد مات وخلف ثلاث بنات وليس عندها ما تنفق عليهن منه ، وقد ترك أبوهن مالا حسنا

١٩١

عند ابني عمه لم يعطياها منه شيئا ، وهن فى حجرى لا يطعمن ولا يسقين ، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلّا ولا ينكى عدوا ، نكسب عليها ولا تكسب ، فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث. فقال رسول الله لا تفرّقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين ، فنزلت (يُوصِيكُمُ اللهُ) إلخ فأعطى زوجه الثمن والبنات الثلثين والباقي لبنى العم».

الإيضاح

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدان والأقربون فهم فيه سواء ، لا فرق بين الرجال والنساء ، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا ، وأتى بقوله نصيبا مفروضا ، لبيان أنه حق معين مقطوع به ليس لأحد أن ينقص منه شيئا ولا أن يحابى فيه.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) المراد بذوي القربى من لا يرث منهم كالأخ لأب مع الأخ الشقيق والعم مع الأب.

أي إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوى القربى للوارثين فانفحوهم بشىء من الرزق الذي جاءكم من غير كدّ ولا نصب ، فلا ينبغى أن تبخلوا به على المحتاجين من ذوى القربى واليتامى والمساكين وتتركوهم يذهبون منكسرى القلب مضطربى النفس ، وقولوا لهم قولا تطيب به نفوسهم عند ما يعطون ، حتى لا يثقل على أبىّ النفس منهم ما يأخذ ، ويرضى الطامع فى أكثر مما أخذ بالتودد والتلطف فى القول وعدم التغليظ فيه.

والسر فى إعطائهم شيئا من التركة أنه ربما يسرى الحسد إلى نفوسهم ، فينبغى التودّد إليهم واستمالتهم بإعطائهم قدرا من هذا المال هبة أو هدية أو إعداد طعام لهم يوم القسمة ، ليكون فى هذا صلة للرحم ، وشكر للنعمة.

١٩٢

قال سعيد بن جبير : هذا الأمر (أمر الإعطاء) للوجوب وقد هجره الناس كما هجروا العمل بالاستئذان عند دخول البيوت.

وقال الحسن والنخعي : إنّ ما أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيان المنقولة ، وأما الأرضون والرقيق وما أشبه ذلك فلا يجب أن يعطوا منها شيئا بل يكتفى حينئذ بقول المعروف أو بإطعام الطعام.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) لا يزال الكلام مع الأوصياء والأولياء الذين يقومون على اليتامى والقول السديد منهم أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بنىّ ويا ولدي ونحو ذلك ، وقوله تركوا أي قاربوا أن يتركوا ، وقوله من خلفهم : أي من بعد موتهم ، وقوله خافوا عليهم أي الإهمال والضياع.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ظلما أي على سبيل الظلم وهضم الحقوق لا أكلا بالمعروف عند الحاجة إلى ذلك أو تقدير الأجرة العمل ، وقوله فى بطونهم : أي ملء بطونهم ، وقوله نارا : أي ما هو سبب لعذاب النار.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً

١٩٣

حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حكم الميراث مجملا فى قوله : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، ذكر هنا تفصيل ذلك المجمل فبين أحكام المواريث وفرائضها لإبطال ما كان عليه العرب من نظام التوارث فى الجاهلية من منع الأنثى وصغار الأولاد ، وتوريث بعض من حرمه الإسلام من الميراث.

وقد كانت أسباب الإرث فى الجاهلية ثلاثة :

(١) النسب ، وهو لا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو ويأخذون الغنائم وليس للضعيفين المرأة والطفل من ذلك شىء.

(٢) التبني ـ فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيكون له أحكام الولد فى الميراث وغيره.

(٣) الحلف والعهد ـ فقد كان الرجل يقول لآخر دمى دمك وهدمى هدمك (أي إذا أهدر دمى أهدر دمك) وترثنى وأرثك وتطلب بي وأطلب بك ، فإذا فعلا ذلك ومات أحدهما قبل الآخر كان للحى ما اشترط من مال الميت.

١٩٤

فلما جاء الإسلام أقرهم على الأول والثالث دون الثاني فقال «وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» والمراد به التوارث بالنسب وقال :

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) والمراد به التوارث بالعهد. وقال (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) والمراد به التوارث بالتبني.

وزاد شيئين آخرين :

(١) الهجرة ، فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه إذا كان بينهما مخالطة وودّ ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه.

(٢) المؤاخاة ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخى بين كل اثنين من الرجال وكان ذلك سببا للتوارث ثم نسخ التوارث بهذين السببين بقوله : «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ»

ثم استقر الأمر بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة : النسب والنكاح والولاء.

وسبب نزول الآية ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر قال : «جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك فى أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال يقضى الله فى ذلك فنزلت آية الميراث (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية ، فأرسل رسول الله إلى عمهما فقال : أعط بنتي سعد الثلثين وأمها الثمن وما بقي فهو لك» قالوا وهذه أول تركة قسمت فى الإسلام.

الإيضاح

(يُوصِيكُمُ اللهُ) الوصية : ما تعهد به إلى غيرك من العمل كما تقول أوصيت المعلم أن يراقب آداب الصبى ويؤدبه على ما يسىء فيه ، وهى فى الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه له ، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم.

١٩٥

(فِي أَوْلادِكُمْ) أي فى شأن أولادكم من بعدكم ، أو فى ميراثهم ما يستحقونه مما تتركونه من أموالكم سواء كانوا ذكورا أو إناثا كبارا أو صغارا ، ولا خلاف فى أن ولد الولد يقوم مقامه عند فقده أو عدم إرثه لمانع كقتل مورّثه ، قال :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من إناثهم إذا كانوا ذكورا وإناثا ، واختير هذا التعبير ولم يقل للأنثى نصف حظ الذكر إيماء إلى أن إرث الأنثى كأنه مقرر معروف وللذكر مثله مرتين ، وإشارة إلى إبطال ما كانت عليه العرب فى الجاهلية من منع توريث النساء.

والحكمة فى جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين ، أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه فجعل له سهمان ، وأما الأنثى فهى تنفق على نفسها فحسب ، فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها.

ويدخل فى عموم الأولاد :

(١) الكافر لكن السنة بينت أن اختلاف الدين مانع من الإرث ، قال عليه الصلاة والسلام «لا يتوارث أهل ملتين».

(٢) القاتل عمدا لأحد أبويه ويخرج بالسنة والإجماع.

(٣) الرقيق وقد ثبت منعه بالإجماع ، لأن المملوك لا يملك ، بل كل ما يصل إلى يده من المال فهو ملك لسيده ومالكه ، فلو أعطيناه من التركة شيئا كنا معطين ذلك للسيد يكون هو الوارث بالفعل.

(٤) الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم فقد استثنى بحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث».

(فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي فإن كانت المولودات نساء ليس معهن ذكر زائدات على ثنتين مهما بلغ عددهن فلهن ثلثا ما ترك والدهن المتوفى أو والدتهن (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أي وإن كانت المولودة واحدة ليس معها أخ

١٩٦

ولا أخت فلها النصف مما ترك والباقي لسائر الورثة بحسب الاستحقاق كما يعلم من أحكام المواريث.

وخلاصة ذلك ـ إنه إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا كان للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف ، وإن كن ثلاثا فصاعدا كان لهن الثلثان ولم يذكر حكم الثنتين ، ومن ثم اختلفوا فيهما ، فروى عن ابن عباس أن لهما النصف كالواحدة ، والجمهور على أن لهما الثلثين كالعدد الكثير.

وقد علم من ذلك أن البنات لا يستغرق فرضهن التركة ، والولد الذكر إذا انفرد يأخذ التركة ، وإذا كان معه أخ له فأكثر كانت قسمة التركة بينهما أو بينهم بالمساواة.

(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) أي ولكل من أبوى الميت السدس مما ترك الولد على السواء فى هذه الفريضة إن كان لهذا الميت ولد فأكثر والباقي بعد هذا الثلث يقسمه الأولاد بحسب التفصيل المتقدم.

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما.

والسر فى تساوى الوالدين فى الميراث مع وجود الأولاد ، الإشارة إلى وجوب احترامهما على السواء ، وفى أن حظ الوالدين من الإرث أقل من حظ الأولاد مع عظم حقهما على الولد ، أنهما يكونان فى الغالب أقل حاجة إلى المال من الأولاد ، إما لكبرهما وإما لتمولهما ، وإما لوجود من تجب عليه نفقتهما من أولادهما الأحياء ؛ وأما الأولاد ، فإما أن يكونوا صغارا لا يقدرون على الكسب ، وإما أن يكونوا على كبرهم محتاجين إلى نفقات كثيرة فى الحياة كالزواج وتربية الأطفال ونحو ذلك.

(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أي فإن كان للميت مع إرث أبويه له إخوة فلأمه السدس مما ترك ، سواء كان الإخوة ذكورا أو إناثا من الأبوين أو أحدهما ، فكل جمع منهم يحجب الأم من الثلث إلى السدس ، وحكم الأخوين أو الأختين حكم الإخوة عند أكثر الصحابة ، وخالف فى ذلك ابن عباس فقد أثر عنه أنه قال

١٩٧

لعثمان : بم صار الأخوان يردّان الأم من الثلث إلى السدس ، وإنما قال الله تعالى :

(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان فى لسان قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلى ومضى فى الأمصار (يريد عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أقاموا الاثنين مقام الجماعة فى اعتبار الشرع لا فى اعتبار اللغة) والخلاصة ـ إن الآية ذكرت حكم الأبوين مع الولد ، وحكمهما منفردين ليس معهما وارث آخر ، وحكمهما مع الإخوة ، ولم يبق إلا حكمهما مع أحد الزوجين ، وجمهور الصحابة على أن الزوج يأخذ نصيبه وهو النصف إن كان رجلا ، والربع إن كان أنثى ، والباقي للأبوين ، ثلثه للأم وباقيه للأب. وقال ابن عباس يأخذ الزوج نصيبه ، وتأخذ الأم ثلث التركة كلها ، ويأخذ الأب ما بقي ، وقال لا أجد فى كتاب الله ثلث الباقي.

ومن هذا تعلم أن حقوق الزوجية فى الإرث مقدمة على حقوق الوالدين ، إذ أنهما يتقاسمان ما يبقى بعد أخذ الزوج حصته ، وسرّ هذا أن صلة الزوجية أشد وأقوى من صلة البنوة ، ذاك أنهما يعيشان مجتمعين وجود كل منهما متمم لوجود الآخر حتى كأنه نصف شخصه ، وهما حينئذ منفصلان عن الوالدين أشد الانفصال ، فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد ، ومن ثم جعل الشارع حق المرأة على الرجل فى النفقة هو الحق الأول ، فإذا لم يجد الرجل إلا رغيفين سدّ رمقه بأحدهما ووجب عليه أن يعطى الثاني لامرأته لا لأحد أبويه ولا لغيرهما من أقاربه.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) أي يوصيكم بأن لأولاد من يموت منكم كذا من التركة ولأبويه كذا منها من بعد وصية يقع الإيصاء بها من الميت ، ويتحقق نسبتها إليه ومن بعد قضاء دين يتركه عليه.

وقدمت الوصية على الدين فى الذكر مع أن الدين مقدم عليها وفاء كما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه علىّ كرم الله وجهه وأخرجه عنه جماعة ، لأ تؤخذ كالميراث بلا عوض فتشق على الورثة.

١٩٨

وجاء عطف الدين على الوصية بأو دون الواو إشارة إلى أنهما متساويان فى الوجوب متقدمان على قسمة التركة مجموعين أو منفردين.

ثم أتى بجملة معترضة للتنبيه إلى جهل المرء بعواقب الأمور فقال :

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي إنكم لا تدرون أىّ الفريقين أقرب لكم نفعا آباؤكم أو أبناؤكم ، فلا تتبعوا فى قسمة التركات ما كان يتعارفه أهل الجاهلية من إعطائها للأقوياء الذين يحاربون الأعداء ، وحرمان الأطفال والنساء لأنهم من الضعفاء ، بل اتبعوا ما أمركم الله به ، فهو أعلم منكم بما هو أقرب نفعا لكم مما تقوم به فى الدنيا مصالحكم وتعظم به فى الآخرة أجوركم (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرض الله ما ذكر من الأحكام فريضة لا هوادة فى وجوب العمل بها.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إنه تعالى لعلمه بشئونكم ولحكمته العظيمة لا يشرع لكم إلا ما فيه المنفعة لكم ، إذ لا تخفى عليه خافية من وجوه المصالح والمنافع ـ إلى أنه منزه عن الغرض والهوى اللذين من شأنهما أن يمنعا من وضع الشيء فى غير موضعه ، ومن إعطاء الحق لمن يستحقه.

وبعد أن بين سبحانه فرائض الأولاد والوالدين ، وقدم الأهم منهما من حيث حاجته إلى المال المتروك وهم الأولاد ـ ذكر هنا فرائض الزوجين فقال :

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) أي ولكم نصف ما تركته الزوجات من المال إن لم يكن لهن ولد ، سواء أكان منكم أم من غيركم ، وسواء أكان ذكرا أم أنثى ، وسواء أكان واحدا أم أكثر ، وسواء أكان من بطنها مباشرة ، أو صلب بنيها أو بنى بنيها ، وباقى التركة لأولادها ووالديها على ما بينه الله فى الآية السالفة : ولا يشترط فى الزوجة أن يكون مدخولا بها ، بل يكفى مجرد العقد.

(فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) والباقي من التركة للأقرب إليها من ذوى الفروض والعصبات أو ذوى الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر.

١٩٩

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) أي لكم ذلك فى تركتهن فى الحالين السابقتين بعد نفاذ الوصية ووفاء الديون ، إذ لا يأخذ الوارث شيئا إلا ما يفضل عنهما إذا وجدا أو وجد أحدهما.

(وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) بحسب التفصيل السابق فى أولادهن فإن كانت واحدة فلها هذا الربع وحدها ، وإن كان له زوجان فأكثر اشتركتا أو اشتركن فيه على طريق التساوي والباقي يكون لمن يستحقه من ذوى القربى وأولى الأرحام.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) والباقي لأولادكم ووالديكم كما تقدم.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) بالطريق التي علمتها فيما سلف ، وبهذا تعلم أن فرض الرجل بحق الزواج ضعف فرض المرأة كما فى النسب ، ولم يعط الله تعالى للزوجات فى الميراث إلا مثل ما أعطى للزوج الواحدة لإرشادنا إلى أن الأصل الذي ينبغى أن نسير عليه فى الزوجية أن تكون للرجل امرأة واحدة ، وإنما يباح الأكثر بشروط مضيقة ، وأن التعدد من الأمور النادرة التي تدعو إليها الضرورة فلم يراعها الشارع فى الأحكام ، إذ الأحكام إنما توضع للأصل الذي عليه العمل والنادر لا حكم له.

وبعد أن بين سبحانه حكم ميراث الأولاد والوالدين والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرة شرع يبين من يتصل به بالواسطة وهو الكلالة. فقال :

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) الكلالة لغة : الإحاطة ، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ، وسمى من عدا الوالد والولد بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه ، أما قرابة الولادة ففيها يتفرع بعض من بعض كالشىء الذي يتزايد على نسق واحد.

أي إن كان الميت رجلا أو امرأة موروثا كلالة أي ذا كلالة ليس له ولد ولا والد وله أخ أو أخت من أم ، لأن الأخوين من العصبة سيأتى حكمهما فى آخر السورة (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) إلخ.

٢٠٠