تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أي صدقكم الله وعده حتى ضعفتم فى الرأى والعمل ، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة ، وتنازعتم ، فقال بعضكم : ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون : لا نخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعصيتم رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهور المقاتلة بنصح المشركين بالنبل ، من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر والظفر ، فصبرتم على الضراء ولم تصبروا على السراء.

وصفوة القول ـ إن الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع وعصيان أمر قائدكم صلى الله عليه وسلم ، فانتهى النصر ، لأن الله تعالى إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة.

وفى قوله : من بعد ما أراكم ما تحبون ـ تنبيه إلى عظم المعصية ، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا عن عصيانه ، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم.

(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشّعب من أحد وذهبوا وراء الغنيمة.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة قبلا نحو خمسين ، والذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثون رجلا.

(ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ثم كفكم عنهم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها ، ليعاملكم معاملة من يمتحن ، ليستبين أمركم وثباتكم على الإيمان.

والخلاصة ـ إن الله صدقكم وعده ، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حسّ واستئصال ، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم ، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك : أي ليكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به ، ويميز الصادقين من المنافقين.

١٠١

(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم حتى صرتم كأنكم لم تفشلوا ، وقد استبان أثر هذا العفو فيما بعد ، كما حدث فى وقعة (حمراء الأسد).

(وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي والله ذو فضل وطول على أهل الإيمان به وبرسوله ، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب ، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصير يهبط بنفوس بعض ، وضعف يلمّ بآخرين ، بل يمحص ما فى صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين.

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي صرفكم عنهم حين أصعدتم أو ذهبتم منهزمين ، لا تلتفتون من شدة الدهشة التي عرتكم ، والذّعر الذي فجأكم.

وبينا أنتم فى هذه الحال إذا بالرسول يدعوكم من ورائكم وينادى ، هلمّ إلىّ عباد الله ، إلىّ عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة ، وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون ، وقد كان لكم أسوة بالرسول ، فتقتدون به فى الصبر والثبات.

(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) قال فى الأساس : إنه لفى غمّة من أمره : إذا لم يهتد للخروج منه ، ومنه قوله تعالى : «لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» والغم الأول ما حصل للصحابة رضوان الله عليهم بالهزيمة والقتل ، والغم الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفة أمره ، أي إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيانكم أمره ، أذاقكم الله غم الانهزام وقتل الأحباب.

والخلاصة ـ إنه أذاقكم هذا عوض هذا.

وقد يكون المعنى ـ جازاكم غما متصلا بغم من الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الجرح والقتل وظفر المشركين بكم حتى صرتم من شدة الدهش يضرب بعضكم بعضا ، وقد فاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها.

(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أي لأجل أن تمرنوا على تجرّع الغموم ،

١٠٢

وتتعودوا احتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على ما يفوت من المنافع والمغانم.

(وَلا ما أَصابَكُمْ) أي ولا تحزنوا على ما أصابكم من المضارّ ، إذ التربية إنما تكون بالعمل والمران الذي يكمل به الإيمان وتثبت الفضائل.

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو عالم بجميع أعمالكم ومقاصدكم ، والدواعي التي حفزتكم عليها ، وقادر على مجازاتكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وفى هذا ترغيب فى الطاعة ، وزجر عن الإقدام على المعصية.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) أي ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم ، حتى نعستم وغلبكم النوم ، لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح وما عرض لكم من الضعف.

والنوم نعمة كبرى لمن يصاب بمثل تلك المصايب ، وعناية من الله يخص بها بعض عباده فى مثل تلك المحن ليخفف وقعها على النفوس.

وعن أبى طلحة رضي الله عنه غشينا النعاس ونحن فى مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه ، وما من أحد إلا يميل تحت حجفته (ترسه).

وعن الزبير رضي الله عنه ، لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف ، فأرسل الله علينا النوم ، والله إنى لأسمع معتّب بن قشير والنعاس يغشانى ، ما أسمعه إلا كالحلم يقول : لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا.

(يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة فى إيمانهم.

(وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يقال همنى الشيء أي كان من همى وقصدى أي وجماعة من المنافقين كعبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير ومن لف لفهم ، قد شغلوا بأنفسهم عن الرسول والدفاع عن الدين.

وخلاصة هذا ـ إن المؤمنين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين :

١٠٣

(١) فريق ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم ، وذكروا وعد الله بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ، ووثقوا بوعد ربهم ، وأيقنوا أنهم إن غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع وعصيان الرسول ، فإن الله سينصرهم بعد ، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة حتى يستردوا ما فقدوا من قوة ، ويذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف.

(٢) فريق أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم ، إذ الوثوق بوعد الله ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم ، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول فى قلوبهم ، لا جرم عظم الخوف لديهم ، وحق عليهم ما وصفهم الله به من قوله :

(يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) غير الحق أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه ، إذ كانوا يقولون فى أنفسهم لو كان محمد نبيا حقا ما سلط الله عليه الكفار ، وهذا مقال لا يقوله إلا أهل الشرك بالله.

(يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟) أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار :

هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شىء ، لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم ، فهم قد فهموا أن النصر وحقية الدين متلازمان ، فما حدث فى ذلك اليوم دليل على أن هذا الدين ليس بحق ، وهذا خطأ كبير ، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا ولكن العاقبة للمتقين.

ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها.

(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي إن كل أمر يجرى فهو بحسب سننه تعالى فى الخليقة ، ووفق النظم التي وضعها ، وربط فيها الأسباب بالمسببات.

ومن ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد بذلك فى قوله : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وقوله : «وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».

(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي يضمرون فى أنفسهم ما لا يستطيعون

١٠٤

إعلانه لك ، فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) ويبطنون الإنكار والتكذيب.

(يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي يقولون لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا كما ادعى محمد أن الأمر كله لله ولأوليائه ، وأنهم الغالبون لما غلبنا ، ولما قتل من المسلمين من قتل فى هذه المعركة.

وهذا منهم تقرير لرأيهم واستدلال عليه بما وقع لهم ، وقد غفلوا عن أن الآجال محدودة ، والأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه ، ومن ثم أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله :

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي لو كنتم فى بيوتكم ولم تخرجوا للقتال ـ لخرج من بينكم من انتهت آجالهم وثبت فى علم الله أنهم يقتلون إلى حيث يقتلون ويسقطون فى البراز (الأرض المستوية) فتكون مصارع ومضاجع لهم.

والخلاصة ـ إن الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير ؛ فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على كل حال ، وإلا انقلب علم الله جهلا ، فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم كما قدر ذلك فى اللوح المحفوظ ، وكتب مع ذلك أنهم هم الغالبون ، وأن العاقبة لهم ، وأن دين الإسلام سيظهر على الدين كله.

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي وقد فعل ذلك ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم ، وليمتحن ما فى صدور المؤمنين من الإخلاص وعدمه ، فيظهر ما انطوت عليه من ضعف وقوة ، ويمحص ما فى قلوبهم من وساوس الشيطان ، ويطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان.

وقد قيل : لا تكرهوا الفتن ، فإنها حصاد المنافقين.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عليم بالأسرار والضمائر ، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.

وفى هذا ترغيب وترهيب ، وتنبيه إلى أن الله غنى عن الابتلاء والامتحان ،

١٠٥

وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كمران المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين ، لأن الحقائق قد تخفى على أربابها ، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيص ولا ابتلاء ، كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي إن الرماة الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبتوا فى أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين ، ما تركوا هذه المواقع إلا بإيقاع الشيطان لهم فى الزلل واستجراره لهم بالوسوسة ، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه ، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأوّل ، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم ، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة ولا وقوع فى ضرر ، ولكن هذا التأويل كان سببا فى كل ما جرى من المصايب التي من أجلها ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذنب يجر إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة ، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا فى الغنيمة ، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا.

وفى هذا إيماء إلى سنة من سنن الله فى أخلاق البشر وأعمالهم ، وهى أن المصايب التي تعرض لهم فى خاصة أنفسهم أو فى شئونهم العامة ، إنما هى آثار طبيعية لبعض أعمالهم ، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها فى النفس وليست ملكة ولا عادة لها ، بل صدرت هفوة غير متكررة ، وهى التي عناها سبحانه بقوله :

«وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» وإليها الإشارة بقوله : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ».

فهذه المصايب والعقوبات ، سواء أكانت فى الدنيا أم فى الآخرة ـ آثار طبيعية للأعمال السيئة.

١٠٦

(وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أي إنّ ما صدر منهم من الذنوب فى هذا اليوم يستحق أن يعاقبوا عليه فى الدنيا والآخرة ، لكن الله عفا عن عقوبتهم الأخروية ، وجعل عقوبتهم فى الدنيا تربية وتمحيصا.

وفى هذا دفع لاستيلاء اليأس على نفوسهم ، وتحسين لظنونهم.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي إن الله يغفر الذنوب جميعا صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتذار ، حليم لا يعاجل بالعقوبة على الذنب.

وقد جاءت هذه الجملة كالسبب للعفو عن هؤلاء المتولين وقد كانوا أكثر المقاتلين ، فإنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلا ، خمسة من المهاجرين وباقيهم من الأنصار ، وقد بالغ بعض المنهزمين فى الفرار حتى إن بعضهم لم يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم لقد ذهبتم بها عريضة ، وبعضهم رجع فى ذلك اليوم واجتمعوا على الجبل كعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

تفسير المفردات

المراد بالذين كفروا هنا : المنافقون كعبد الله بن أبىّ وأصحابه ، ضربوا فى الأرض :

أي سافروا فيها للتجارة والكسب ، لإخوانهم : أي فى شأنهم ، والأخوة تشمل أخوة النسب وأخوة الدين والمودة ، وغزّى : واحدهم غاز وهو المقاتل فى الحرب.

١٠٧

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا ـ حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) أي لا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك المنافقين الذين قالوا فى شأن إخوانهم حين سافروا فى الأرض للتجارة والكسب فماتوا ، أو كانوا غزاة فى وطنهم أو فى بلاد أخرى فقتلوا : لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

وعبر عن هؤلاء المنافقين بالكافرين ، لبيان أن مثل هذا لا ينبغى أن يصدر من المؤمنين ، بل إنما يصدر من الكافرين ، إذ أن من مات أو قتل فقد انتهى أمره ، فقولهم (لو كان كذا) عبث لأن ما وقع لا يرتفع ، والحسرة عليه لا تفيد ، ومن شأن المؤمنين أن يكونوا صحيحى العقل والإدراك.

إلى أن فى هذا القول جهلا بالدين وجحدا له فإن الله يقول : «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً».

وعقيدة القضاء والقدر لا تجعل المسلم مجبورا على أفعاله التي تصدر منه ، فإن القضاء تعلق العلم الإلهى بالشيء ، والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام ، والقدر وقوع الشيء بحسب العلم ، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا.

والله تعالى قد جعل للإنسان اختيارا فى أعماله ، لكنه خلقه مع ذلك ناقص القدرة والإرادة والعلم ، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة

١٠٨

أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه ، مع اعتقاده بأنه هو الموافق للمصلحة لمرض يلمّ به ، أو مانع يحول بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه.

وإنا لنرى هذا يحدث كل يوم ، فليس الإنسان بقادر على أن يفعل كل ما يشاء كما يخيل إلى الناس اغترارا بما ينفذونه من عزائمهم ، فاختياره فى أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب ، كل ذلك له حدود لا يتعداها ، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت ، ولا يقدر على اجتناب كل ما يعلم من أسبابه ، وما كل ما يتعرض له يقع ، فالذين يعرّضون أنفسهم لنار الحرب قد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم.

ومن هذا تعلم أن الشيء متى وقع علم أن وقوعه لم يكن منه بد ، وأن الإنسان إذا كان يؤمن بمعونة الله وتأييده ، وأنه يوفقه إلى علم ما يجهل من أسباب سعادته ، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط فى العمل ، وأبعد عن اليأس والكسل.

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا ، ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة فى قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا وتورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت ، فإنكم إذا كنتم مثلهم فى ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم ، وتضعفون عن القتال كما يضعفون ، فلا يكون لكم ميزة عنهم بالعقل الراجح الذي يهدى صاحبه إلى أن الذي وقع كان لا بد أن يقع ، فلا يتحسر عليه ، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانا وتسليما بكل ما يجرى به القضاء (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي والله هو المؤثر وحده فى الحياة والموت بمقتضى سننه فى أسبابهما ، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما ، فإن الله قد يحيى المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك ، ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم.

وقد أثر عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته : ما فىّ موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح ، وهأنذا أموت كما يموت العير (الحمار) فلا نامت أعين الجبناء.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شىء مما تكنّون فى أنفسكم من المعتقدات

١٠٩

التي لها أثر فى أقوالكم وأفعالكم ، فاجعلوا نفوسكم طاهرة من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار.

وفى هذا تهديد للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار فى أقوالهم وأفعالهم.

ثم بشر من قتل أو مات فى سبيل الله بحسن المآل فقال :

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الموت فى سبيل الله هو الموت فى عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان فى سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه ، فالمحارب قد يموت فى أثناء الحرب من التعب والإعياء ، أو الإتيان بعمل من الأعمال التي تستدعيها الحروب فيكون هذا موتا فى سبيل الله.

أي إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يقتل فى سبيل الله ، خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال والمتاع فى هذه الدار الفانية ، فإن هذا ظل زائل ، وذاك نعيم خالد.

والخلاصة ـ إن ما ينتظره المؤمن المقاتل فى سبيل الله من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه ، والرحمة التي ترفع درجاته ـ خير له مما يجمع أولئك الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات والشهوات.

فما أجدر المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية ، وألا يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت فى سبيل الله فإن ما يلقونه بعدهما خير لهم مما كانوا فيه قبلهما.

ثم حثهم على العمل فى سبيل الله ، لأن المآل إليه فقال :

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) أي إنكم بأى سبب كان هلاككم فإنكم إلى الله تحشرون لا إلى غيره ، فيجزى كلا منكم بما يستحق من الجزاء ، فيجازى المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته ، ولا يرجى من غيره ثواب ، ولا يتوقع منه دفع عقاب ، فآثروا ما يقربكم إليه ، ويجلب لكم رضاه من العمل بطاعته ، وعليكم بالجهاد فى سبيله ، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها ، فإنها فانية ، وتلك الحياة الأخرى باقية خالدة.

١١٠

والمراد من الحشر إلى الله فى مثل هذا مما جاء فى القرآن الكريم ، أن الإنسان فى ذلك اليوم الذي يحشر فيه الناس يستقبل ما يلاقيه من الله جزاء عمله ، لا يشغله عنه شىء ، فيكون بذلك راجعا عن كل شىء فيه إلى الله ، محشورا مع سائر الناس.

أما الإنسان فى هذه الدار فقد يغفل عن الله وينسى هيبته وجلاله ، وعظمته وسلطانه ، لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه ، وجلب اللذات والرغائب لها.

وإذا كان هذا مصير كل حى مهما كان سبب موته أو قتله ، فالاشتغال بذكر سبب المصير ومبدئه لا يفيد ، وإنما الذي يجدر بالعاقل هو الاهتمام بالمستقبل والاستعداد له ، والعمل لما به الفوز والسعادة فيه.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

تفسير المفردات

اللين فى المعاملة : الرفق والتلطف فيها ، والفظ : الخشن الشّرس الأخلاق الجافي فى المعاشرة فى القول والفعل ، والغليظ : القاسي الذي لا يتأثر قلبه من شىء ، وانفضّ القوم : تفرقوا كما قال : «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» والمشاورة : من قولك شرت العسل إذا اجتنيتها واستخرجتها من موضعها ، والمراد بالأمر سياسة الأمة فى الحرب والسلم والخوف إلى نحو ذلك من المصالح لدنيوية ، والتوكل : إظهار العجز والاعتماد على غيرك والاكتفاء به فى فعل ما تحتاج إليه.

١١١

المعنى الجملي

بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين فى الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم فى معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ـ زاد فى الفضل والإحسان إليهم فى هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم ، وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبىّ صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، وكان من جرّاء ذلك ما كان من الفشل وظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه وسلم مع من أصيب ، فضبر وتجلد ولان فى معاملة أصحابه وخاطبهم بالرفق ولم يعاتبهم ، اقتداء بكتاب الله إذ أنزل فى هذه الواقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين وعصيانهم وتقصيرهم ، حتى ذكر الظنون والهواجس النفسية ، لكن مع العتب المقترن بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة.

الإيضاح

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي إنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة والتعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية ، إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال ، وشمّروا للهزيمة والحرب قائمة على قدم وساق ، ومع ذلك لنت لهم وعاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها الله على قلبك ، وخصّك بها ، إذ أمدك بآداب القرآن العالية ، وحكمه السامية ، حتى هانت عليك المصايب ، وعلّمتك ما لها من المنافع وحسن العواقب.

وقد مدح الله نبيه بحسن الخلق فى مواضع من كتابه فقال : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» وقال : «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» وقال صلى الله عليه وسلم : «لا حلم

١١٢

أحبّ إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه».

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي ولو كنت خشنا جافيا فى معاملتهم لتفرقوا عنك ، ونفروا منك ، ولم يسكنوا إليك ، ولم يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط السوىّ.

ذاك أن المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق ، ولا يتم ذلك إلا إذا مالت قلوبهم إليهم ، وسكنت نفوسهم لديهم ، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريما يتجاوز عن ذنب المسيء ، ويعفو عن زلاته ، ويخصه بوجوه البر والمكرمة والشفقة.

(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي واسلك معهم سبيل المشورة التي اتبعتها فى هذه الواقعة ودم عليها ـ فإنهم وإن أخطئوا الرأى فيها ، فإن فى تربيتهم عليها دون الانقياد لرأى الرئيس وإن كان صوابا نفعا فى مستأنف أمرهم ومستقبل حكومتهم ما حافظوا عليها.

فالجماعة أبعد عن الخطإ من الفرد فى أكثر الحالات ، وما ينشأ من الخطر على الأمة بتفويض أمرها إلى واحد مهما حصف رأيه ، أشد من الخطر الذي يترتب على رأى الجماعة.

ولما كانت الاستشارة سبيلا للنزاع ولا سيما إذا كثر المستشارون ـ أمر الله نبيه أن يقرر هذه السنة عملا ، فكان يستشير صحبه بهدوء وسكينة ويصغى إلى كل قول ويرجح رأيا على رأى بما يرى فيه من المصلحة والفائدة بقدر المستطاع.

وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالشّورى فى حياته ، فكان يسيشير السواد الأعظم من المسلمين ، ويخص بها أهل الرأى والمكانة فى الأمور التي يضر إفشاؤها.

فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب ولم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون والأنصار بالموافقة ، واستشارهم يوم أحد كما علمت ، وهكذا كان

١١٣

يستشيرهم فى كل مهمّ ما لم ينزل عليه فيه وحي ، فإنه إذ ذاك لا بد من نفاذه ، ولم يضع للنبى صلى الله عليه وسلم قواعد الشورى ، لأنها تختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية ، وبحسب الزمان والمكان ، ولأنه لو وضع لها قواعد لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها فى كل زمان ومكان ، ومن ثم قال الصحابة فى اختيار أبى بكر خليفة رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ، إذ أمره بالإمامة فى الصلاة حين مرضه أفلا نرضاه لدنيانا؟

ولكن الخلفاء فيما بعد لم يتبعوا هذه السنة ، ولا سيما زمن الدولة العباسية ، إذ كان للأعاجم سلطان كبير فى ملكهم ، ثم جرى على ذلك سائر الملوك من المسلمين فيما بعد ، وجاراهم على ذلك علماء الدين ، حتى ظن كثير من غير المسلمين أن السلطة فى الإسلام استبدادية ، وأن الشورى اختيارية ، ولكن هذا بعيد من الصواب ، بعد أن صرح القرآن بالشورى وأمر نبيه بها وهو المعصوم عن الهوى وللشورى فوائد جمة منها :

(١) إنها تبين مقادير العقول والأفهام ، ومقدار الحب والإخلاص للمصالح العامة.

(٢) إن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفة ، فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره وإن كان عظيما.

(٣) إن الآراء فيها تقلّب على وجوهها ، ويختار الرأى الصائب من بينها.

(٤) إنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد ، واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب ، ومن ثم شرعت الاجتماعات فى الصلوات ، وكانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة.

وعن الحسن رضي الله عنه : قد علم الله أن ما به إليهم حاجة ، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» وعن أبى هريرة رضي الله عنه : ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

١١٤

(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فإذا عقدت القلب على فعل شىء وإمضائه بعد المشاورة ومبادلة الرأى فيه ، فتوكل على الله ، وفوّض الأمر إليه بعد أخذ الاهبة واستكمال العدّة ، ومراعاة الأسباب التي جعلها الله وسيلة للوصول إلى المسببات كما

ورد فى الحديث «اعقلها وتوكل».

ولا تتكل على ما أوتيت من حول وقوة ، ولا على إحكام الرأى وأخذ العدة ، فذلك كله ليس بكاف فى النجاح ما لم تقرن به معونة الله وتوفيقه ، لأن الموانع الخارجية والعوائق التي تحول دون الوصول إلى البغية ، لا يحيط بها إلا علام الغيوب ، فلا بد من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته.

وفى الآية إيماء إلى وجوب إمضاء العزيمة متى استكملت شروطها التي من أهمها المشورة.

وسر هذا أن نقض العزائم خور فى النفس ، وضعف فى الأخلاق يجعل صاحبه غير موثوق به فى قول ولا فعل ، ولا سيما إذا كان رئيس حكومة ، أو قائد جيش ، ومن ثم لم يصغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى مشورة من رجع عن رأيه الأول وهو الخروج إلى أحد حين لبس لامته وخرج ، إذ رأى أن هذا شروع فى العمل بعد أن أخذت الشورى حقها.

وبذلك علمهم أن لكل عمل ميقاتا محدودا ، وأن وقت المشورة متى انتهى جاء طور العمل ، وأن الرئيس إذا شرع فى العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينقض عزيمته ، ويبطل عمله ، ولو كان يرى أن أهل الشورى أخطئوا الرأى والتدبير كما حدث فى مسألة أحد كما تقدم.

ولا يزال أهل السياسة والحرب فى البلاد ذات الحضارة والمدنية يجرون على هذه القاعدة ويجعلونها دستورا لأعمال أممهم ، ولا ينقضونها على أي حال ، حتى قال أحد كبار الساسة الإنجليز : إن السياسة متى قررت شيئا وشرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه والرجوع عنه وإن كان خطأ.

١١٥

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه الواثقين به ، فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة.

وفى الآية إرشاد للمكلفين ، وترغيب لهم فى التوكل على الله ، والرجوع إليه ، والإعراض عن كل ما سواه.

قال الرازي : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل ، بل التوكل عليه أن يراعى الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها ، بل يعول على عصمة الحكمة اه.

فالتوكل الصحيح إنما يكون مع الأخذ بالأسباب ، وبدونها يكون دعوى التوكل جهلا بالشرع وفسادا فى العقل ، قال تعالى : «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» وقال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ» وقال : «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» وقال : «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» وقال لنبيه لوط «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» وقال لموسى عليه السلام : «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً» وقال حكاية عن نبيه يعقوب لابنه يوسف : «لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» وقال أيضا حاكيا عنه : «يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ففى هذا أمر بالحذر مع التنبيه إلى أنه متوكل على الله ، ولا تنافى بينهما ولا غنى للمؤمن عنهما.

روى أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن ابن عباس مرفوعا «يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب ، الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون» وقد قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرها ، إذ لم ينف من

١١٦

الأعمال إلا الاستشفاء بالرّقية وهى إنما يطلبها الجاهلون بالأسباب الحقيقية ، وإلا التطير وهو التيمن والتشاؤم بحركات الطير ، وإلا الكي بالنار وكانوا يتداوون به فى الجاهلية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه لأمته ، ويعده من الأسباب المؤلمة التي تنافى التوكل ، وقد روى أحمد «لم يتوكل من استرقى أو اكتوى».

وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا» وهو ظاهر فى أن التوكل يكون مع السعى ، لأنه ذكر للطير عملا وهو الذهاب صباحا فى طلب الرزق وهى فارغة البطن والرجوع وهى ممتلئتها.

وأخرج ابن حبان فى صحيحه : «حديث الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته وقال : أأعقلها وأتوكل ، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اعقلها وتوكل».

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : قلت لأبى هؤلاء المتوكلون يقولون : نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل ، قال : ذا قول ردىء خبيث ، يقول الله عز وجل : «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» وقال أيضا : سألت أبى عن قوم يقولون : نتكل على الله ولا نكتسب ، قال : ينبغى للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ولكن يعوّدون أنفسهم الكسب ، هذا قول إنسان أحمق.

وسر هذا أن الإنسان إذا توكل ولم يستعدّ للأمر ويأخذ له الأهبة بحسب ما سنه الله من الأسباب ، أسف وندم وتحسر على ما فات ، وعدّ ملوما عقلا وشرعا ، كما أنه إذا أخذ الأهبة واعتمد عليها وغفل قلبه عن الله كان عرضة للهلع والجزع إذا خاب سعيه ولم ينل بغيته ، وربما وقع فى اليأس الذي لا مطمع معه فى فلاح ولا نجاح.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي إن أراد الله نصركم كما حدث يوم بدر حين عملتم بسنته ، وثبتم فى مواقفكم ، واتكلتم على توفيقه ومعونته ، فلا غالب لكم

١١٧

من الناس الذين جعلهم حرمانهم من التوكل عليه عرضة لليأس والقنوط.

وفى هذا ترغيب فى التوكل على الله بعد المشورة والعزيمة الصادقة المترتبة على أخذ الاستعداد بما أوتيه من الحول والقوة.

(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؟) أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته بما كسبت أيديكم من الفشل والتنازع وعصيان القائد فيما أمركم به كما جرى يوم أحد ، فلا أحد يملك لكم نصرا ولا يدفع عنكم الخذلان.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فليخصه المؤمنون بالتوكل ، لأنه لا ناصر لهم سواه.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

تفسير المفردات

الغلّ : الأخذ خفية كالسرقة ، ثم غلب استعماله فى السرقة من المغنم قبل القسمة ، ويسمى الغلول أيضا ، وتوفى كل نفس ما كسبت ، أي تعطى جزاء ما عملت تاما وافيا ، وباء : رجع ، والسخط (بفتحتين وبضم فسكون) : الغضب العظيم ، والمأوى : المصير ، هم درجات أي ذوو درجات ومنازل ، والبصير هو الذي يشاهد ويرى حتى

١١٨

لا يعزب عنه ما تحت الثرى ، منّ : أي أنعم وتفضل ، من أنفسهم أي من جنسهم من العرب ليفقهوا كلامه ، ويزكيهم أي يطهرهم من أدران الوثنية والعقائد الفاسدة ، من قبل : أي من قبل بعثة الرسول ، ضلال مبين : أي ضلال بيّن لا ريب فيه.

المعنى الجملي

بعد أن حث عز اسمه فيما سلف على الجهاد ، وبين مصير المجاهد فى سبيله ـ أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد ، ومن جملتها الكف عن الغلول.

روى الكلبي ومقاتل : أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا من مغنم فهو له ، وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى؟ فقالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا ، فقال لهم : بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم.

الإيضاح

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي ما كان من شأن أىّ نبى ولا من سيرته أن يغل ، لأن الله عصم أنبياءه منه ، فهو لا يليق بمقامهم ولا يقع منهم ، لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية ، فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءة وخسة.

(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وكل من يقع منه غلول يأتى بما غل به يوم القيامة حاملا له ، ليفتضح أمره ويزيد به فى عذابه.

أخرج البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال : «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا ، فذكر الغلول وعظمه ، وعظم أمره ثم قال :

ألا لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثنى ، فأقول له لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك ، لا ألفينّ أحدكم يجىء

١١٩

يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، فيقول يا رسول الله أغثنى ، فأقول لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك ، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول يا رسول الله أغثنى ، فأقول لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك ، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثنى ، فأقول لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك». وجعل بعض العلماء هذا الحديث من قبيل التمثيل ، فشبهت حال الغالّ بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع من فقد الناصر والمغيث ـ بحال من يحمل ذلك على عاتقه ، ويقصد أرجى من يمكنه أن يغيثه فيخذله ويتنصل من إغاثته ، وما زال الناس يشبهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية ، ويعبرون عن ذلك بالحمل كما قال تعالى «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ، وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ».

وقال أبو مسلم الأصفهانى : إن الإتيان فى الآية معناه : أن الله يعلمه أتم العلم وينكشف له أوضح انكشاف ، فالمراد أن كل غلول وخيانة خفية يعلمه الله مهما خفى ، ويظهره يوم القيامة للغالّ حتى يعرفه كمعرفة من أتى بشىء يوصله إلى غيره ، كما جاء فى قوله تعالى حكاية عن لقمان : «يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» فليس معنى الإتيان هنا أنه يحملها ، بل يعلم بها مهما كانت مستترة ، لأن من يأتى بالشيء لا بد أن يكون عالما به.

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ثم بعد أن يأتى الغالّ بما غل فيتمثل له كأنه حاضر بين يديه ، ينال جزاء ما كسب مستوفى تاما لا ينقص منه شىء كما قال تعالى : «وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».

١٢٠