تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

فى أنفسهم بتزكيتها وتطهيرها من شوائب الأدران وسيىء الأخلاق ، وينتفع به الناس فى تهذيبهم وتحسين معايشهم ، ولكن هؤلاء لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم فى أنفسهم ، بالتمادى فى مكابرة الحق ، وتأييد سلطان الشر فى الخلق.

فحياة هؤلاء المتخلفين عن الجهاد ليست خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد إذ بقاؤهم صار وسيلة للخزى فى الدنيا والعقاب الدائم فى الآخرة ، وقتل هؤلاء صار سبيلا للثناء الجميل فى الدنيا ، والثواب الجزيل فى الآخرة.

فترغيب أولئك المثبّطين عن الجهاد فى مثل هذه الحياة ، وتزيينها لهم مما لا ينبغى أن يروج إلا عند الجهال الذين لا يفهمون قيمة الحياة الحقة التي يجب أن تكون نصب عين العاقل.

والخلاصة ـ إن هذا الامهال والتأخير ليس عناية من الله بهم ، وإنما هو قد جرى على سننه فى الخلق ، بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فإنما هو ثمرة عمله ، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره ، وسببا لا سترساله فى فجوره ، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكسبه العذاب المهين.

وفى الآية من العبرة :

(١) إن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول عمره ، ويتمكن من العمل بحسب استعداده.

(٢) إن من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته ، وتزداد خيراته ، فليجعل المؤمن هذا دستورا فيما بينه وبين ربه ، ويحاسب نفسه على مقتضاه ، فإذا فقهه وعمل به خرج من الظلمات إلى النور ، وكان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين.

ثم بين أن الشدائد هى محكّ صدق الإيمان فقال :

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي ما كان من سنن الله فى عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كانوا عليها

١٤١

حين غزوة أحد ، حتى يميز المؤمن من المنافق ، ويظهر حال كل منهما ، لأن الشدائد هى التي تميز قوىّ الإيمان من ضعيفه ، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين.

أما تكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة وغيرهما فيقبلها المنافق ، كما يقبلها صادق الإيمان ، لما فيها من حسن الأحدوثة ، والتمتع بمزايا الإسلام.

وفى الشدائد من الفوائد الشيء الكثير منها :

(١) اتقاء المنافق إذا علم نفاقه ، فقد يفضى صادق الإيمان ببعض أسرار الملة إلى المنافق ، لما يغلب عليه من حسن الظن به ، حين يراه يؤدى الواجبات الظاهرة ، ويشارك الصادقين فى سائر الأعمال ، فإذا هو أفشاها عرف حاله وحذره المسلمون الصادقون.

(٢) أن تروز الجماعة حالها ، إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها ، وكذلك تعرف حال ضعاف الإيمان الذين لم تربّهم الشدائد.

(٣) إنها تدفع الغرور عن النفس ، إذ يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما فى نفسه من ضعف فى الاعتقاد والأخلاق حتى تمحّصه الشدائد وتبيّن له حقيقة أمره.

وقد يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلة لتمييز المؤمن الصادق من المنافق ، أن يطلع الله المؤمنين على الغيب حتى يعرفوا حقائق أنفسهم وحقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، فيعرفوا أن فلانا من أهل الجنة ، وفلانا من أهل النار ، فأجاب الله عن هذا فقال :

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب ، إذ لو فعل ذلك لأخرج الإنسان من طبيعته ، فإنه تعالى خلقه يحصّل رغائبه ، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبي الذي تهدى إليه الفطرة وترشد إليه النبوة.

ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس ، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد ، والتضحية بالنفس وبذل المال فى سبيل الحق والخير ، كما ابتلى المؤمنون

١٤٢

فى وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم ، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة ، وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم ، وابتلوا بظهور العدو عليهم ، جزاء ما فعلوا من المخالفة ، فظهر نفاق المنافقين ، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالا شديدا ، وثبت كملة المؤمنين ، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ولكن الله يختار من رسله من يشاء ، فيطلعه على ما فى قلوب المنافقين من كفر ونفاق ، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال ، كما حكى عنهم بعضه فيما سلف ، ويفضحهم به على رءوس الأشهاد ، ويخلصكم من كيدهم وخداعهم.

ونحو الآية قوله : «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ».

وفى التعبير بالاجتباء إشارة إلى أن الوقوف على أسرار الغيب منصب جليل تتقاصر عنه الهمم ، ولا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم.

وبعد أن ردّ على ما طعن به المنافقون فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وقوع الكوارث التي حصلت فى أحد ، وبين أن فيه كثيرا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب ، أمرهم بالإيمان به فقال :

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي فآمنوا بالله ورسله الذين ذكرهم الله فى كتابه وقص علينا قصصهم.

وعمم الأمر بالإيمان بالرسل جميعا مع أن سوق الكلام فى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، للايماء إلى أن الإيمان به يقتضى الإيمان بهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل ، وهم شهداء على صحة نبوته.

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي وإن تؤمنوا بما جاءوا به من أخبار الغيب ، مع تقوى الله بترك ما نهى عنه ؛ وفعل ما أمر به ، فلكم أجر عظيم لا يستطاع الوصول إلى معرفة كنهه.

١٤٣

وقلّ أن ذكر القرآن الإيمان إلا إذا قرن به التقوى ، كما قل أن ذكر الصلاة إلا قرن بها الزكاة حثا على عمل البر والرأفة بالفقراء والبائسين ، وإشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إلّا بهما

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

تفسير المفردات

ما أتاهم أي ما أعطاهم من المال والعلم والجاه ، سيطوقون ما بخلوا به أي سيلزمون إثمه فى الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة ، وقد جاء فى أمثالهم : تقلدها طوق الحمامة ، إذا جاء بما يسب به ويذم ، ميراث السموات والأرض أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ؛ سنكتب ما قالوا أي سنعاقب عليه ولا نهمله ؛ ونقول ذوقوا عذاب الحريق ، أصل الذوق وجود الطعم فى الفم ثم استعمل فى إدراك سائر المحسوسات ، والحريق المحرق

١٤٤

المؤلم ، وعذاب الحريق أي عذاب هو الحريق أي سننتقم منهم ، عهد إلينا أي أمرنا فى التوراة وأوصانا ، القربان : ما يتقرب به إلى الله من حيوان ونقد وغيرهما ، والمراد من النار : النار التي تنزل من السماء ، والبينات : هى المعجزات الواضحة ، والزبر ، واحدها زبور : وهو الكتاب ، والمنير : الواضح.

المعنى الجملي

كان الكلام فيما مضى فى التحريض على بذل النفس فى الجهاد فى سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم فى جنات النعيم.

وهنا شرع يحت على بذل المال فى الجهاد ـ والمال شقيق الروح ـ فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله فى هذه السبيل ، وأرشد إلى أن المال ظل زائل ، وأن مدى الحياة قصير ، وأن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده.

ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.

الإيضاح

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولا يظننّ أحد أن بخل الباخلين بما أعطاهم الله من فضله ونعمه هو خيرا لهم ، لأنهم مطالبون بشكران النعم ، والبخل بها كفران لا ينبغى أن يصدر من عاقل.

والمراد من البخل بالفضل البخل به فى أداء الزكاة المفروضة ، وفى الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد ويهدد استقلالها ، ويصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزة ، أو إنقاذ شخص من مخالب الموت جوعا.

ففى كل هذه الأحوال يجب بذل المال ، لأنه يجرى مجرى دفع الضرر عن النفس.

وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه ، إذ أن الله أباح لنا الطيبات لنستمتع بها ، ولأن العقل قاض بأن الله لا يكلف الناس بذل كل ما يكسبون ويبقون عراة جائعين ، ومن ثم قال فى حق المؤمنين المهتدين «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ»

١٤٥

وجاءت الآية بطريق التعميم ترغيبا فى بذل المال بدون تحديد ولا تعيين ، ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي فى قلبه ، وما تحدثه فى النفس من أريحية بذل الواجب والزيادة عليه ، إذا هو تذكر أن فى ماله حقا للسائل والمحروم.

(بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أي هو شر عظيم لهم ، وقد نفى أولا أن يكون خيرا ثم أثبت كونه شرا ، لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن فى منعه خيرا له ، لما فى بقاء المال فى يده من الانتفاع به فى التمتع باللذات ، وقضاء الحاجات ، ودفع الغوائل والآفات.

(سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي سيجعل ما بخلوا به من المال طوقا فى أعناقهم ، ويلزمهم ذنبه وعقابه ، ولا يجدون إلى دفعه سبيلا ، كما يقال : طوقنى الأمر أي ألزمنى إياه.

وخلاصة هذا ـ إن العقاب على البخل لازم لا بدّ منه.

وقال مجاهد : إن المعنى سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يستطيعون ذلك ، ويكون ذلك توبيخا لهم على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا ميسورا ، ونظير هذا قوله تعالى : «وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ».

ويرى بعضهم أن التطويق حقيقى ، وأنهم يطوّقون بطوق يكون سببا لعذابهم فتصير تلك الأموال حيات تلتوى فى أعناقهم ، فقد روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال : «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له شجاع (ثعبان) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، فيأخذ بلهزمتيه (شدقيه) يقول أنا مالك ، أنا كنزك ثم تلا الآية».

(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله وحده لا لأحد سواه ، ما فى السموات والأرض ما يتوارث من مال وغيره ، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر فى يد ،

١٤٦

ولا يسلم التصرف فيه لأحد ، إلى أن يفنى الوارثون والموروثون ، ويبقى مالك الملك ، وهو الله رب العالمين.

فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ، ولا ينفقونه فى سبيله ، وابتغاء مرضاته.

وفى الآية إيماء إلى أن كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة وعلم فإنه عرض زائل ، وصاحبه فإن غير باق ، فلا ينبغى أن يستبقى الفاني ما هو مثله فى الفناء ، بل عليه أن يضع الأشياء فى مواضعها التي تصلح لها ، وبذا يكون خليفة لله فى أرضه محسنا للتصرف فيما استخلف.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ، ولا ما تنطوى عليه جوانحكم ، فيجازى كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله فى تزكية نفسه أو تدسيتها ، ونيته فى فعله كما جاء فى الحديث : «إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى» (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي قد سمع الله قول هؤلاء الكافرين الذين قالوا هذه المقالة ، ولم يخف عليه ، وسيجزيهم عليه أشد الجزاء.

وهذا أسلوب يتضمن التهديد والوعيد ، كما يتضمن البشارة والوعد بحسن الجزاء فى نحو ـ سمع الله لمن حمده ـ ويتضمن مزيد العناية وإرادة الإغاثة وإزالة الشكوى فى نحو «قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» إذ سمع الله لعباده يراد به مراقبته لهم فى أقوالهم ، ويلزم من ذلك المعاني التي ذكرناها آنفا.

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً» فقالوا يا محمد : أفقير ربك يسأل عباده القرض ونحن أغنياء؟ فأنزل الله (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) الآية.

(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنعاقبهم على ذلك عقابا لا شك فيه ، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه العقوبة عليه ، وهذا استعمال شائع فى اللغة.

١٤٧

(وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي قتل سلفهم لهم ، وإنما نسبه إليهم للاشارة إلى أنهم راضون بما فعلوه.

وهذا يدل على أن الأمم متكافلة فى الأمور العامة ، ويجب على أفرادها الإنكار على من يفعل المنكر وتغييره أو النهى عنه ، لئلا يفشو فيها ، فيصير خلقا من أخلاقها وعادة مستحكمة فيها ، فتستحق العقوبة فى الدنيا بالضيق والفقر ، والعقوبة فى الآخرة بتدنيس نفوسها ، وأن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم ويطبقه على أحكام الشريعة فيستحسن منها ما تستحسنه ، ويستهجن ما تستهجنه ـ عدّ شريكا له فى إثمه ، ومستحقا لمثل عقوبته.

(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي سننتقم منهم ونقول لهم هذه المقالة.

ذاك أنهم لما قالوا ما قالوا وقتلوا من الأنبياء من قتلوا ، فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء ألوانا من العذاب ، وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب ، فجوزوا بهذا العذاب الشديد وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، كما أذقتم أولياء الله فى الدنيا ما يكرهون.

والخلاصة ـ ذوقوا ما أنتم فيه ، فلستم بمتخلصين منه ، وهذا قول يلقى للتشفى الدالّ على كمال الغيظ والغضب (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي إن هذا العذاب المحرق الذي تذوقون حرارته ، بسبب أعمالكم فى الدنيا كقتل الأنبياء ، ووصف الله بالفقر ، وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان.

وأضاف العمل إلى الأيدى ، من قبل أن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد وليفيد أن ما عذّبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة ، لا أنهم أمروا به ولم يباشروه.

(وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي إن ذلك العذاب أصابكم بعملكم ، وبكونه تعالى عادلا فى حكمه وفعله ، لا يجور ولا يظلم ، فلا يعاقب غير المستحق للعقاب ، ولا يجعل المجرمين كالمتقين ، والكافرين كالمؤمنين كما قال : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا

١٤٨

السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» وقال : «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» وقال : «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟».

والخلاصة ـ إن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء ووضع للشىء فى غير موضعه ، وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قال ابن عباس : نزلت هذه الآية فى كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف وفنحاص ابن عازوراء فى جماعة آخرين ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول الله ، وأنه تعالى أوحى إليك كتابا ، وقد عهد إلينا فى التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، ويكون للنار دوىّ خفيف حين تنزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدقناك ، فنزلت الآية.

وروى ابن جرير أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة ، فإذا تقبّل منه نزلت عليه نار من السماء فأكلت ما نصدق به.

لكن دعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم ، وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة ، فهو وسائر المعجزات سواء ، وما مقصدهم من تلك المفتريات إلا عدم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يأت بما قالوه ، ولو أتى به لآمنوا فرد الله عليهم بقوله :

(قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي قل موبخالهم ومكذبا : قد جاءكم رسل كثيرون من قبلى كزكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات الدالة على صدق نبوتهم ، وبما كنتم تقترحون وتطلبون ، وأتوا بالقربان الذي تأكله النار ، فما بالكم لم تؤمنوا بهم ، بل اجترأتم على قتلهم؟

١٤٩

وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد ، (وبذلك وصفوا فى التوراة) قساة القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له ، وأنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادا ، بل تعنتا وعنادا.

وقد نسب هذا الفعل إلى من كان فى عصر التنزيل وقد وقع من أسلافهم ، لأنهم راضون عما فعلوه ، معتقدون أنهم على حق فى ذلك ، والأمة فى أخلاقها العامة وعاداتها كالشخص الواحد ، وقد كان هذا معروفا عند العرب وغيرهم ، فتراهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته ، ويؤاخذونها بها.

والخلاصة ـ إن أسلافكم كانوا متعنتين ، وما أنتم إلا كأسلافكم ، فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان ، إذ لا فائدة منه.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الساطعة ، والمعجزات الواضحة ، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل ، مع استنارة الحجة والدليل ـ فلا تأس عليهم ، ولا تحزن لعنادهم وكفرهم ، ولا تعجب من فساد طويّتهم ، وعظيم تعنتهم ، فتلك سنة الله فى خليقته ، فقد كذّب رسل من قبلك جاءوا بمثل ما جئت به من باهر المعجزات وهزّوا القلوب بالزواجر والعظات ، وأناروا بالكتاب سبيل النجاة ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا ، فصبروا على ما نالهم من أذى ، وما نالهم من سخرية واستهزاء.

وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وبيان لأن طباع البشر فى كل الأزمنة سواء فمنهم من يتقبل الحق ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة ، ومنهم من يقاوم الحق والداعي إليه ، ويسفّه أحلام معتنقيه.

فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك ، ولا أن يفنّدوا حجتك ، فإن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق ، وتحرّى سبل الخير.

١٥٠

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

تفسير المفردات

توفون أجوركم : أي تعطونها وافية كاملة غير منقوصة ، زحزح عن النار : نحّى عنها ، فاز سعد ونجا ، والمتاع : ما يتمتّع وينتفع به مما يباع ويشترى ، والغرور : إصابة الغرّة والغفلة ممن تخدعه وتغشّه ، لتبلونّ أي لتختبرن أي لتعاملنّ معاملة المختبرين لتظهر حالكم على حقيقتها ، فى أموالكم أي بالبذل فى سبيل الله وبالجوائح والآفات ، وفى أنفسكم أي بالقتل والأسر فى سبيل الله ، وبالأمراض وفقد الأقارب ، الذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى ، والذين أشركوا هم كفار العرب ، أذى كثيرا كالطعن فى الدين والافتراء على الله ورسوله ، والصبر : تلقى المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه مع دفعه برويّة ومقاومة ما يحدث من الجزع ، والتقوى الابتعاد عن المعاصي ، من عزم الأمور أي من صواب التدبير ، وما ينبغى لكل عاقل أن يعزم عليه ويأخذ نفسه به ، من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك إياه على وجه لا يجوز الترخص فيه.

المعنى الجملي

بعد أن سلّى نبيه فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرا من الرسل قبلك قد كذّبوا كما كذّبت ، ولاقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لاقيت ، بل أشد

١٥١

مما لاقيت ، فقد قتلوا كثيرا منهم كيحي وزكريا عليهما السلام ـ زاده هنا تسلية وتعزية أخرى ، فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية ، وكل آت قريب فلا تضجر ولا تحزن على ما ترى منهم ، وأنهم سيجازون على أعمالهم فى دار الجزاء كما تجازى ، وحسبك ما تصيب من حسن الجزاء ، وحسبهم ما أصيبوا به وما يصابون به من الجزاء فى الدنيا ، وسيوفون الجزاء كاملا يوم القيامة.

الإيضاح

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس تذوق طعم مفارقة البدن وتحس به ، وفى هذا إيماء إلى أن النفس لا تموت بموت البدن ، لأن الذي يذوق هو الموجود ، والميت لا يذوق. فالذوق شعور لا يجس به إلا الحي.

(وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وإنما تعطون جزاء أعمالكم كاملا وافيا يوم القيامة ، وفى ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور من خيرا وشر قد تصل إليهم فى الدنيا جزاء أعمالهم ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا ، «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران».

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي فمن خلص من العذاب ووصل إلى الثواب فقد فاز بالمقصد الأسمى والغاية التي لا مطلب بعدها ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه».

والخلاصة ـ إن هناك جنة ونارا ، وإن من الناس من يلقى فى هذه ومنهم من يلقى فى تلك ، وإن هول النار عظيم ، وعبر عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها ، لأن أعمالهم سائقة لهم إلى النار ، لأنها أعمال حيوانية تسوق إليها ولا يدخل الجنة أحد إلا إذا زحزح ، فالزحزحة عنها فوز عظيم ، وأولئك

١٥٢

المزحزحون هم الذين غلبت صفاتهم الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا فى إيمانهم ، وجاهدوا فى الله حق جهاده ، ولم يبق فى نفوسهم شائبة من إشراك غير الله معه فى عمل من أعمالهم.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وما حياتنا القربى التي نحن فيها ونتمع بلذاتها الحسية من مأكل ومشرب ، أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة إلا متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها ، تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها ، فهو يتعب لما لا يستحق التعب ، ويشقى لتوهم السعادة.

والخلاصة ـ إن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغرّ الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف والأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة.

فينبغى له أن يحذر من الإسراف فى الاشتغال بمتاعها عن نفسه وإنفاق الوقت فيما لا يفيد ، إذ ليس للذاتها غاية تنتهى إليها فلا يبلغ حاجة منها إلا طلب أخرى.

فما قضى أحد منها لبانته

ولا انتهى أرب منها إلا إلى أرب

وعليه أن يسعى لكسب علم يرقى به عقله ، أو عمل صالح ينتفع به وينفع عباده ، مع إصلاح السريرة ، وخلوص النية ، وقد قال بعض الصوفية : «عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك».

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) بعد أن سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما سبق آنفا زاد فى تسليته بهذه الآية ، وأبان له أنه كما لقى هو ومن معه من الكفار أذى يوم أحد فسيلقون منهم أذى كثيرا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء فى النفس أو فى المال ، والمقصد من هذا الإخبار أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع حتى لا يشق عليهم البلاء عند نزوله بهم.

والابتلاء فى الأموال يكون بالبذل فى جميع وجوه البر التي ترفع شأن الامة الإسلامية وتدفع عنها أعداءها وتردّ عنها المكاره وتدفع عنها غوائل الأمراض والأوبئة.

١٥٣

والابتلاء فى الأنفس يكون ببذلها فى الجهاد فى سبيل الله وبموت من تحب من الأهل والأصدقاء أو بالمدافعة عن الحق ، وفائدة الابتلاء تمييز الخبيث من الطيب ، وفائدة الإخبار به أن نعرف السنن الإلهية ونهيىء أنفسنا لمقاومتها ، فإن من تقع به المصيبة فجأة على غير انتظار يعظم عليه الأمر ويحيط به الغمّ حتى ليقتله فى بعض الأحايين ، لكنه إذا استعد لها اضطلع بها وقوى على حملها.

وكذلك من تحدث له النعمة على غير توقع لها ، فإنها تحدث له دهشة وتهيجا فى الأعصاب ، وربما أصيب بشلل أو اضطراب عقلى أو موت فجائى ، والحوادث المشاهدة فى هذا الباب كثيرة.

(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) هذا سبيل آخر من الابتلاء فى الأنفس ، وخصه بالذكر لأهميته أي إنكم ستسمعون إيذاء كثيرا من اليهود والنصارى والمشركين ، ومن ذلك حديث الإفك (قذف أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها) وتألب اليهود عليهم ونقض عهودهم ومحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أجلاهم عن المدينة فأمن شرهم ، واتفاق اليهود مع أحزاب المشركين وزحفهم على المدينة لاستئصال المسلمين ، فقد حاصروهم وأوقعوا بهم شديد البلاء وضيّقوا عليهم وفى ذلك يقول الله تعالى : «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً».

(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي وإن تصبروا على ما سيحل بكم من البلاء فى أموالكم وأنفسكم ، وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه ، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور أي الأمور التي ينبغى أن يعزمها كل أحد ، لما فيه من كمال المزية والشرف.

روى الزهري أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش فى شعره وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة

١٥٤

وأهلها أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود ، فأراد النبي أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

تفسير المفردات

الميثاق : العهد المؤكد ، والذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى ، لتبيننه للناس أي لتظهرنّ جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تكتمونه : أي لا تؤولونه ولا تلقون الشبه الفاسدة والتأويلات المزيّفة ، فنبذوه وراء ظهورهم : أي طرحوه ولم يعتدّوا به ، ويقال للأمر المعتنى به جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه ، واشتروا به ثمنا قليلا : أي شيئا من حطام الدنيا الفانية ، بما أوتوا أي بما فعلوا ، أن يحمدوا أي يحمدهم الناس ، بمفازة من العذاب : أي بمنجاة منه ، من قولهم : فاز فلان إذا نجا.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه عن اليهود شبها ومطاعن فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأجاب عنها بما علمت فيما سلف ، أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم ، وغريب أمرهم ،

١٥٥

وأنه لا يليق بهم أن يطعنوا فى نبوته ، ولا أن يوجهوا شبها لدينه ، ذاك أن اليهود والنصارى أمروا بشرح ما فى التوراة والإنجيل وبيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته ، فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن والشبه وكانوا أجدر الناس بدفعها وأحقهم بتأييده والذّود عن دينه لما فى كتابيهما من البشارة به وتوكيد دعوته ، فالعقل قاض بأن يظاهروه ، ودينهم حاكم بأن يؤيدوه ، ومن العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل والنقل وراءهم ظهريا ، وهل مثل هؤلاء يجدى معهم الحجاج والجدل ، أو تقنعهم قوة الدليل والحجة.

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي واذكروا حين أخذ الله العهد والميثاق على الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى بلسان أنبيائهم ، ليبيننّ كتابهم للناس غير كاتمين له ، بأن يوضحوا معانيه كما هى ، ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها ، ويذكروا مقاصده التي أنزل لأجلها ، حتى لا يقع اضطراب ولا لبس فى فهمه.

فإن لم يفعلوا ذلك فإما أن يبينوه على غير وجهه ولا يكون هذا بيانا ولا كشفا لأغراضه ومقاصده ، وإما ألا يبينوه بتاتا ويكون هذا كتمانا له.

وهذه الآية وإن كانت لليهود والنصارى ، فإن العبرة فيها تنطبق على المسلمين أيضا ، فإنهم مع حفظهم لكتابهم وتلاوتهم إياه فى كل مكان ، فى الشوارع والأسواق ومجتمعات الأفراح والأحزان ـ تركوا تبيينه للناس ، ففقدوا هدايته وعميّت عليهم عظاته وزواجره ، وحكمه وأسراره ، واعترفوا بأنهم انحرفوا عنه وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر.

وتبيين الكتاب على ضربين :

(١) تبيينه لغير المؤمنين به لدعوتهم إليه

(٢) تبيينه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم بما أنزل إليهم من ربهم

١٥٦

وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة فيه ، وكفى بهذه الآية حجة عليهم وهى آكد من قوله : «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

(فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي لم يبالوا به ولم يهتموا بشأنه ، وقد كان من الواجب عليهم أن يجعلوه نصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهور لا ينظر إليه ، ولا يفكّر فى أمره ، فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئا ـ ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار ، ومنهم الذين يحرّفونه عن مواضعه ، ومنهم الذين لا يعلمون منه إلا أمانى يتمنونها وقراءات يقرءونها.

وإن هذا لينطبق على المسلمين اليوم أتم الانطباق ، فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة ، فما بالهم عن التذكرة معرضين ، وكتاب الله بين أيديهم شاهد عليهم ، وهو يتلى بين ظهرانيهم.

(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي أخذوا عوضا منه فائدة دنيوية حقيرة فغبنوا فى هذا البيع والشراء ، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرءوسين من حطام الدنيا ليتمتعوا بلذاتها الفانية ، وشهواتها الفاسدة ، وكانوا يؤولون الكتاب ويحرفونه لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام أو الرجاء فيهم ، فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره ، أو لإرضاء العامة أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم ومالهم.

(فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي إن ما يشترونه ذميم قبيح لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم الذي يحصل للأمة من اتباعها لكتابها وهديها بإرشاده ، وتهذيب أخلاقها بآدابه وجمع كلمتها حول تعاليمه ، وبذا تحول بينها وبين المستبدين فيها ، وتصبح عزيزة الجانب متكافلة متضامنة ، أمر أهلها بينها شورى.

١٥٧

وقد روى عن على كرم الله وجهه أنه قال : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا ، وعن أبى هريرة أنه قال : لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية ، وعن الحسن أنه قال : لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) كان الكلام قبل هذا مع أهل الكتاب وأنه قد أخذ عليهم الميثاق بتبيين كتابهم للناس فقصروا فى ذلك وتركوا العمل به واشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من ربهم.

وهنا ذكر حالا أخرى من أحوالهم ، ليحذر المؤمنين منها ، وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب ، ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم ، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك ، وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه من الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وأهواء العامة.

ومن عجيب حالهم أنه قد اشتبه أمرهم على الناس ، فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه وعلماء كتابه وأنهم أبعد الناس عن عذابه وأقربهم من رضوانه ، فبين الله كذب هذا الحسبان ونهى عنه وسجل عليهم العذاب.

والخلاصة ـ لا تظنن أيها المخاطب أن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ، ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ، ناجون من العذاب الدنيوي وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها وساءت أعمالها ، وألفت الفساد والظلم ؛ وهو ضربان :

(١) عذاب هو أثر طبيعى للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله فى الاجتماع البشرى بخذلان أهل الباطل والإفساد ، وذهاب استقلالهم ونصرة أهل الحق عليهم وتمكينهم من رقابهم وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد

١٥٨

والعدل مكان الظلم «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ».

(٢) عذاب يكون سخطا سماويا كالزلزال والخسف والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمّرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم وكذبوهم وآذوهم عند اشتداد عتوّهم وإيذائهم لرسلهم.

روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شىء فى التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوا واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا ، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب عظيم فى الآخرة كفاء فساد أخلاقهم وسوء طويتهم وحبهم للحمد الكاذب ، وقوله بما أوتوا أي بما فعلوا.

قال صاحب الكشاف : أتى وجاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى : «إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» وقال : «لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» وقوله : فلا تحسبنهم تأكيد لقوله :

لا تحسبن الذين ، وقد عهد هذا فى الأساليب العربية من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج : العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول فتقول لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا ، فلا تظننه صادقا ، فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا ، والفاء زائدة كما فى قوله :

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعى

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لا تحزنوا أيها المؤمنون ولا تضعفوا ، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا ، ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، ولا تفرحوا بما عملتم ، فإن الله يكفيكم ما أهمكم ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها فإن لله ملك السموات والأرض يعطى من يشاء ، وهو على كل شىء قدير ، لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين.

١٥٩

وفى هذا إيماء إلى أن الخير فى اتباع ما أرشد إليه ، وفيه تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ووعد له بالنصر ، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانا صحيحا يظهر أثره فى أخلاقهم وأعمالهم ، إذ لو كانوا كذلك ما تركوا العمل بكتابه وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

تفسير المفردات

الخلق : التقدير والترتيب الدالّ على النظام والإتقان ، والسموات : ما علاك مما تراه فوقك ، والأرض : ما تعيش عليه ، اختلاف الليل والنهار : تعاقبهما ومجىء كل منهما خلف

١٦٠