تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

ومما سلف تعلم أن هذا المثل ضرب لخيبتهم فى الآخرة ، وليس بالبعيد أن يكون أيضا مثلا لخيبتهم فى الدنيا.

ذاك أنهم أنفقوا الأموال الكثيرة فى جمع العساكر ، وتحملوا المشاق ، ثم انقلب الأمر عليهم ، فأظهر الله الإسلام وقواه ، فلم يبق للكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة.

وقد جعل الله هذا الحرث لقوم ظلموا أنفسهم ، لإفادة أن المنفقين لا يستفيدون منه شيئا ، إذ حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بلا منفعة فى الدنيا ولا فى الآخرة.

أما حرث المسلم المؤمن فهو وإن ذهب حسا فهو لا يذهب معنى ، لما فيه من الثواب بالصبر على ما يصيبه من النكبات والأحزان.

والخلاصة ـ إن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة لهم على ذنوب اقترفوها ، إذ لا يستنكر على القادر الحكيم الذي وضع السنن وربط الأسباب بمسبباتها فى عالم الحس ، أن يوفق بينها وبين سننه الخفية فى إقامة ميزان القسط بين الناس ، لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي تستفاد من النظر والتجربة ، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحى الإلهى.

ونحن نسمى ما يترتب عليه حدوث الشيء سببا له ، وما يلابس السبب من النفع لبعض والضر لآخرين حكمة له ، وكل ذلك مقصود للفاعل الحكيم.

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمهم الله بعدم انتفاعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم بإنفاق الأموال فى السبل التي تؤدى إلى الخيبة والخسران على النهج الذي سنة الله فى أعمال الإنسان والآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة ، أو ينفقه اليهود فى عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ومقاومته ، لأنهم هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم ، ولم يضروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ، بل كان ذلك سبب سيادته عليهم ، وتمكنه منهم.

٤١

وقيل إنها نزلت فيما كان ينفقه المنافقون فى بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقيّة.

وقيل إن المثل ينطبق على الكافرين الذين ينفقون أموالهم فى طرق البر رغبة فى الخير ، لأن شرط الثواب على تلك الأعمال الإيمان ، وقد ظلموا أنفسهم بترك النظر فى الدلائل بعد ما ظهرت ، أو بالجحود بعد النظر وإقامة الحجة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))

تفسير المفردات

بطانة الرجل : خاصته الذين يستنبطون أمره ، مأخوذة من بطانة الثوب للوجه الذي يلى البدن ، ويسمى الوجه الظاهر ظهارة ، وهى تستعمل للواحد والجمع مذكرا ومؤنثا ، ومن دونكم : أي من غيركم ، ويألونكم : من ألا فى الأمر يألو : إذا قصر فيه ، ويقال : لا آلوك نصحا ، ولا آلوك جهدا ، أي لا أمنعك نصحا ، ولا أنقصك جهدا ، والخبال : النقصان ، ومنه رجل مخبول ومخبل ومختبل : إذا كان ناقص العقل ، والفساد ، ومنه قوله تعالى : «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً» أي فسادا

٤٢

وضررا ، ووددت كذا : أي أحببته ، والعنت : المشقة ، والبغضاء : شدة البغض كالضراء شدة الضر ، والكتاب هنا : المراد به جنس الكتب كما يقال كثر الدرهم فى أيدى الناس ، وعضّ الأنامل : يراد به شدة الغيظ أحيانا ، كما يراد به الندم أحيانا أخرى ، وذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب ، والدواعي التي تدعو إلى الأفعال ، أو الصوارف التي تدفعها عنه والمسّ : أصله ما كان باليد كاللمس ، ثم سمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا ، فقالوا : مسه التعب والنصب قال تعالى : «وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ» وقال : «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ» والحسنة : المنفعة حسية كانت أو معنوية كصحة البدن والفوز بالغنيمة ، وأعظمها انتشار الإسلام وحصول الألفة بين المسلمين ، والسيئة : الفقر والهزيمة وحصول التفرقة بين الأقارب ، من ساء يسوء بمعنى قبح فهو سىء والأنثى سيئة قال تعالى : «ساءَ ما يَعْمَلُونَ» والكيد : الاحتيال لإيقاع غيرك فى مكروه ، والمحيط بالشيء : هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، ويراد به فى حق الله العلم بدقائقه وتفاصيل أجزائه ، فلا يعزب عنه شىء منه ، قال تعالى : «وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» وقال : «وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ».

المعنى الجملي

كانت الآيات السالفة حجاجا مع أهل الكتاب والمشركين ، وإلزامهم بالحجة ، وبيانا لأحوال المؤمنين ، وتذكيرا لهم بما يكون من سوء العاقبة يوم القيامة ، يوم تبيض وجوه وتسوّد وجوه.

والكلام فى هذه الآيات تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين مخالطة تدعو إلى الإباحة بالأسرار ، والاطلاع على شئون المسلمين ، مما تقضى المصلحة بكتمانه ، وعدم معرفة الأعداء له.

ومما دعا إلى هذا النهى أنه كانت بين المؤمنين وغيرهم صلات خاصة تدعو إلى الإباحة بالأسرار إليهم كالنسب والمصاهرة والرضاعة والعهد والمحالفة ـ إلى أنّ من

٤٣

طبيعة المؤمن أن يبنى أمره على اليسر والأمانة والصدق ، ولا يبحث عن عيوب غيره.

ولكن لما كان همّ المناصبين من أهل الكتاب والمشركين إطفاء نور الدعوة ، وإبطال ما جاء به الإسلام ، والمسلمون لم يكن لهم غرض إلا نشر هذه الدعوة بسائر الوجوه التي يرونها كفيلة بإعلاء كلمة الدين ـ اختلف المقصدان ، وافترق الغرضان ، فلم يكن من الحزم أن يفضى الإنسان بسره إلى عدوه ، ويطلعه على خططه التي يدبرها للفوز ببغيته على أكمل الوجوه وأحكمها ، وأقربها للوصول إلى الغرض ، ومن ثم حذر الله المؤمنين من اطلاع أعدائهم على أسرارهم ، لما فى ذلك من تعريض مصلحة الملة للخبال والفساد.

أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواصّ لكم دون المؤمنين ، إذا كانوا على تلك الأوصاف التي ذكرت فى هذه الآية :

(١) لا يألونكم خبالا : أي لا يقصرون فى مضرتكم ، وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

(٢) يتمنون ضركم فى دينكم ودنياكم أشد الضرر.

(٣) يبدون البغضاء بأفواههم ، ويظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم ، وينسبونكم إلى الحمق والجهل ، ومن اعتقد حمق غيره وجهله لا يحبه.

(٤) ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما فى قلوبهم منه.

٤٤

فهذه الأوصاف شروط فى النهى عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين ، فإذا اعتراها تغيّر وتبدل كما وقع من اليهود ، فبعد أن كانوا فى صدر الإسلام أشد الناس عداوة للذين آمنوا ـ انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين فى فتوح الأندلس ، وكما وقع من القبط إذ صاروا عونا للمسلمين على الروم فى فتح مصر ـ فلا يمتنع حينئذ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين ، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم ، وجرى الخلفاء من بعده على ذلك ، إلى أن نقل عبد الملك بن مروان الدواوين من الرومية إلى العربية.

وعلى هذه السنة جرى العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين فى نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى حتى العصر الحاضر ، فإن كثيرا من سفراء الدولة العثمانية ووكلائها من النصارى.

ومع كل هذا يرمينا الأجانب بالتعصب ، ويقولون : إن الإسلام لا تساهل فيه.

وهذا النهى المقيد بتلك الأوصاف شبيه بالنهى عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء فى قوله : «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو ، ومن يصح أن يتخذ بطانة ، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته ، وسوء عاقبة مباطنته ، إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء والأولياء ، وتعلمون قدر مواعظ الله وحسن عواقبها.

ثم ذكر نوعا آخر من التحذير عن مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة ، وفيه تنبيه لهم على خطئهم فى ذلك ، وقد ضمنه أمورا ثلاثة كل منها يستدعى الكفّ عن مخالطتهم.

٤٥

(١) (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) أي إنكم تحبون هؤلاء الكفار الذين هم أشد الناس عداوة لكم ، ولا يقصرون فى إفساد أمركم ، وتمنّى عنتكم ، ويظهرون لكم العداوة والغش ، ويتربصون بكم ريب المنون ، فكيف بكم توادونهم وتواصلونهم؟.

وحب المؤمنين لهم ـ وهم على تلك الشاكلة ـ من أقوى البراهين على أن هذا الدين دين رحمة وتساهل ، لا يمكن أن يتصور ما هو أعظم منه فى ذلك.

(٢) (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي إنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من الكتب ، سواء منها ما نزل عليكم وما نزل عليهم ، فليس فى نفوسكم جحد لبعض الكتب الإلهية ، ولا للنبيين الذين جاءوا بها ، حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب ـ أما هم فيجحدون بعض الكتب وينكرون بعض النبيين.

وخلاصة هذا : إنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم ، فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم ، كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحرى ببغضهم ، ومع هذا تحبونهم ولا يحبونكم.

قال ابن جرير : فى الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين ، أعنى المؤمنين والكافرين ، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم ، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان اه.

وقال قتادة : فو الله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى إليه ويرحمه ، ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه (أفناه وأهلكه) اه.

وفى هذا توبيخ للمؤمنين بأنهم فى باطلهم أصلب منكم فى حقكم.

ونحو الآية قوله : «فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ» (٣) (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) أي وإذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألانوا لهم القول حذرا على أنفسهم منهم ، فقالوا : آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا هم صاروا فى خلاء حيث لايراهم المؤمنون أظهروا شدة العداوة والغيظ منهم ،

٤٦

حتى ليبلغ الأمر إلى عضّ الأنامل كما يفعل أحدنا إذا اشتد غيظه ، وعظم حزنه على فوات مطلوبه.

وإنما فعلوا ذلك لما رأوا من ائتلاف المؤمنين ، واجتماع كلمتهم ، وصلاح ذات بينهم ، ونصر الله إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلا إلى التشفي منهم ، فاضطروا إلى مداراتهم.

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) هذا دعاء عليهم بازدياد الغيظ حتى يهلكوا ، كقولهم : دم بعزّ ، وبت قرير عين ، ونحو ذلك ، والمراد بذلك ازدياد قوة الإسلام وعزّ أهله.

وفى هذا عبرة للمسلمين لعلهم يتذكرون ، فيعلموا أن ما حل بهم من الأرزاء ما كان إلا بزوال هذا الاجتماع ، والتفرق بعد الاعتصام.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تنطوى عليه صدوركم من البغضاء والحقد والحسد ، ولا يخفى عليه ما تقولون فى خلواتكم ، وما يبديه بعضكم لبعض من تدبير المكايد ونصب الحيل للمؤمنين ، وما تنطوى عليه صدور المؤمنين من حب الخير والنصح لكم ، ويجازى كلّا على ما قدم من خير أو شر ، واعتقد من إيمان أو كفر.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) أي إذا نالكم خير كانتصاركم على أعدائكم المقاومين لدعوتكم ، ودخول الناس فى دين الله أفواجا أحزنهم ذلك وعزّ عليهم.

وإن نالتكم مساءة كالإخفاق فى حرب ، أو إصابة عدوّ لكم ، أو حدوث اختلاف بين جماعتكم فرحوا بذلك.

قال قتادة فى بيان ذلك : فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم ، غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرّهم ذلك ، وأعجبوا به وابتهجوا ، وهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته ، وأوطأ محلته ، وأبطل حجته ، وأظهر عورته ، وذلك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة اه.

٤٧

(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي وإن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر ، وتتقوا كل ما نهيتم عنه وحظر عليكم ـ ومن ذلك اتخاذ الكافرين بطانة ـ فلا يضركم كيدهم ، لأنكم قد وفيتم لله بعهد العبودية ، فهو يفى لكم بحق الربوبية ، ويحفظكم من الآفات والمخافات كما قال سبحانه : «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ».

قال بعض الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فاجتهد فى اكتساب الفضائل.

وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الصبر فى كل مقام يشق على النفس احتماله ، ولا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ، ومعامله وقريبه مما يشق عليه ، فإن من لذات النفوس أن تفضى بما فى الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به.

ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم من خلطائهم وعشرائهم وحلفائهم لما بدا منهم من البغضاء والحسد ـ حسن أن يذكّرهم بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم ، واتقاء ما يجب اتقاؤه للسلامة من عواقب كيدهم.

وفى الآية عبرة للمسلمين فى معاملة الأعداء ، فإن الله أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين ، واتقاء شرهم ، ولم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله ، إذ من دأب القرآن ألا يأمر إلا بالمحبة والخير ، ودفع السيئة بالحسنة كما قال : «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».

فإن تعذر تحويل العدو إلى محب ، بدفع سيئاته بما هو أحسن منها ـ جاز دفع السيئة بمثلها من غير بغى ، كما فعل النبىّ صلى الله عليه وسلم مع بنى النّضير ، فإنه حالفهم ووادّهم ، فنكثوا العهد وخانوا ، وأعانوا عليه عدوه من قريش وسائر العرب ، وحاولوا قتله ، فلم يكن هناك وسيلة لعلاجهم إلا قتالهم وإجلاؤهم من ديارهم.

(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عالم بعمل الفريقين ، ومحيط بأسباب ما يصدر من كل منهما ، ومقدماته ، ونتائجه وغاياته ، فهو الذي يعتمد على إرشاده ،

٤٨

فى معاملة أحدهما للآخر ، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعمله ذلك المحيط بعمله ، وعمل من يناهضه ، ويناصبه العداوة ، فهداية الله للمؤمنين خير وسيلة للوصول إلى أغراضهم ومآربهم.

وهذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.

وخلاصة المعنى ـ إن الله قد دلكم على ما ينجيكم من كيد أعدائكم ، فعليكم أن تمتثلوا وتعلموا أنه محيط بأعمالهم ، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم ، فثقوا به ، وتوكلوا عليه.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

٤٩

تفسير المفردات

غدا : خرج غدوة ـ والغدوة والغداة : ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ـ وتبوىء أي تهيىء وتسوّى ، والمقاعد واحدها مقعد : مكان القعود والمراد المواطن والمواقف ، والهم : حديث النفس وتوجهها إلى الشيء ، والطائفتان الجماعتان : وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار أن تفشلا : أي تضعفا وتجبنا ، وليهما : أي ناصرهما ، والتوكل : من وكل فلان أمره إلى فلان إذا اعتمد عليه فى كفايته ولم يتوله بنفسه ، والأذلة : واحدهم ذليل ، وهو من لا منعة له ولا قوة ، وقد كانوا قليلى العدة من السلاح والدواب والزاد ، والكفاية : سد الحاجة وفوقها الغنى ، والإمداد : إعطاء الشيء حالا بعد حال ، بلى : كلمة للجواب كنعم ، لكنها لا تقع إلا بعد النفي وتفيد إثبات ما بعده ، والفور : الحال التي لا بطء فيها ولا تراخى ؛ فمعنى من فورهم : أي من ساعتهم بلا إبطاء ، ومسومين (بكسر الواو) من قولهم سوّم على القوم : أي أغار عليهم ففتك بهم ، وقيل من التسويم بمعنى إظهار سيما الشيء وعلامته : أي معلمين أنفسهم أو خيلهم ، وطرفا : أي طائفة وقطعة منهم ، ويكبتهم من الكبت : وهو شدة الغيظ ، أو الوهن الذي يقع فى القلب.

استطراد دعت إليه الحاجة

من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت فى غزوة أحد ، فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها ، ويعرف مواقع أخبارها ، ويستيقن من حكمها وأحكامها.

ولكن عليك أن تعرف قبل هذا ، أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، وحقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين ، وتهددوهم ، فكان لا بد من الاستعداد للدفاع ، وقد صار النبي صلى الله عليه وسلم داعية للدين ، ورئيسا لحكومة المدينة ، وقائدا لجيشها.

٥٠

هذا ، وقد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات ، بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد فى التاريخ ، وقد اشترك النبي صلى الله عليه وسلم فى تسع منها أشهرها.

وقعة بدر

كانت قريش ترى أن محمدا وأصحابه شر ذمة من الثوار يجب أن تقتل ، ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة فى المدينة وهى على طريق التجارة إلى الشام ، فجدّ المسلمون فى مهاجمة قوافل مكة ، ونالوا أول انتصار لهم فى السنة الثانية من الهجرة فى غزوة بدر ـ بئر بين مكة والمدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه ـ وكانت هذه الوقعة نصرا مؤزّرا للمسلمين ، وكارثة كبرى على المشركين ، وكان لها دوىّ عظيم فى أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.

وقعة أحد

أحد جبل على نحو ميل من المدينة إلى الشمال

ولما خذل المشركون فى وقعة بدر ورجع فلّهم إلى مكة مقهورين ـ أخذ أبو سفيان يؤلّب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش ، فاجتمعوا للحرب وكانوا نحو ثلاثة آلاف ، فيهم سبعمائة دارع ، ومعهم مائتا فرس ، وقائدهم أبو سفيان بن حرب ، ومعه زوجه هند بنت عتبة ، وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة ، ومعهن الدفوف يضربن بها ويبكين على قتلى بدر ، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين ، وساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة فى شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام فى المدينة وقتالهم بها ، ورأى باقى الصحابة الخروج لقتالهم ، فخرج فى ألف من الصحابة ، إلى أن صار بين المدينة وأحد ، فانخذل عنه عبد الله بن أبىّ ابن سلول فى ثلث الناس ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشّعب من أحد ، وجعل ظهره إلى الجبل ، وكان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة ،

٥١

فيهم مائة دارع ، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين ، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مصعب بن عمير ، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبى جهل ، ولواؤهم مع بنى عبد الدار.

ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبى سفيان ومعها النسوة يضربن بالدفوف ، وهى تقول :

ويها بنى عبد الدار

ويها حماة الأدبار

ضربا بكل بتّار

وقاتل حمزة قتالا شديدا ، ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية لعلى بن أبى طالب.

ولما انهزم المشركون طمعت الرماة فى الغنيمة ، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بملازمته ، فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ، ووقع الصراخ أن محمدا قد قتل ، وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم ، وكان يوم بلاء على المسلمين ، وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا ، وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلا ، ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيب رباعيته ، وشجّ فى وجهه ، وكلمت شفته ، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم ، وجعل يدعوهم إلى ربهم ، فنزل قوله تعالى : «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ».

ودخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشجة ، ونزع أبو عبيدة بن الجرّاح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيّة من ثنياته ، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى ، وامتص مالك ابن سنان والد أبى سعيد الخدري الدم من وجنته ، وطمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال «وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» وأصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده ، وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

٥٢

ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجد عن الأنوف ، وصلمن الآذان ، واتخذن منها قلائد ، وبقرت هند عن كبد حمزة ولا كتها ، ولم تستسغها ، وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزجّ الرمح ، وصعد الجبل ، وصرخ بأعلى صوته ، الحرب سجال يوم بيوم بدر ، اعل هبل (صنم بالكعبة) أي ظهر دينك.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قولوا له : هو بيننا وبينكم ، ثم سار المشركون إلى مكة ، وبحث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمه حمزة فوجده مبقور البطن ، مجدوع الأنف ، مصلوم الأذن ، فقال : لئن أظهرنى الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين منهم ، ثم أمر أن يسجّى عمه ببردته ، ثم صلى عليه ، فكبر سبع تكبيرات ، ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحدا بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ، ثم أمر بحمزة فدفن ، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صرعوا.

إذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات ، وما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة فى تاريخ الإسلام ، وما فيها من عظة وعبرة للمسلمين ، فقد كانت نبراسا لهم فى كل حروبهم وأعمالهم فى حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ـ إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها أسوأ الآثار ، وأن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع فى الغنيمة ، وجمع حطام الدنيا ، وهو ظل زائل وعرض مفارق.

المعنى الجملي

بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ، ثم أعلمهم ببغضهم إياهم ، ثم أمرهم بالصبر والتقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا ـ ذكّرهم فى هذه الآيات بوقعة أحد ، وما كان فيها من كيد المنافقين ،

٥٣

إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ، ثم خرجوا معهم ، وانشقوا عنهم فى الطريق ، ورجعوا بثلث الجيش ، ليوقعوا الفشل بين صفوفهم ويخذلوهم أمام عدوهم وما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم ، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم ، وإلا تقوى الله ، ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى ، وذكّرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم ، إذ جعلوا الصبر جنتهم ، وتقوى الله عدّتهم ، فأصابوا من عدوهم ما أصابوا ، وكان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا فى صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة ، والبعد عن مطامع هذه الحياة.

الإيضاح

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة وهى غدوة سحر يوم السبت سابع يوم من شوال من سنة ثلاث للهجرة ؛ تهيىء أمكنة للقتال ، منها مواضع للرماة ، ومواضع للفرسان ، ومواضع لسائر المؤمنين.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم ، كقول من قال : اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم فى خارج المدينة ، وقول من قال : لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا ، ولما تشير به أنت عليهم ، عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنيّة كل قائل ؛ من أخلص منهم فى قوله وإن أخطأ فى رأيه كالقائلين بالخروج إليهم ، ومن لم يخلص فى قوله ؛ وإن كان صوابا كعبد الله بن أبىّ ومن معه من المنافقين.

قال ابن جرير : ضرب الله مثلا أو مثلين على صدق وعده فى الآية السابقة «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» بتذكيرهم بما كان يوم أحد من

٥٤

وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر (وذنب الجماعة أو لأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما) وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم.

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) أي والله سميع عليم حين همت بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس ؛ وكانا جناحى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن تضعفا وتجبنا عن القتال حين رأوا انخزال عبد الله بن أبىّ ومن معه عن رسول الله.

وهذا الهمّ لم يكن عزيمة ممضاة ، ولكنها كانت حديث نفس ؛ وقلما تخلوا النفس عند الشدة من بعض الهلع ؛ فإن ساعدها صاحبها ذمّ ؛ وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل ؛ ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى :

(وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي متولى أمورهما لصدق إيمانهما ؛ لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما ؛ فلم يجيبا داعى الضعف الذي ألمّ بهما عند رجوع المنافقين ؛ وكانوا نحو ثلث العسكر ؛ بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين ؛ فوثقا به وتوكلا عليه.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن المؤمنين ينبغى أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على الله ؛ لا بحولهم وقوتهم ؛ ولا بأنصارهم وأعوانهم ، بعد أخذ الأهبة والعدّة تحقيقا لسنن الله فى خلقه ؛ إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات ؛ وهو الخالق للسبب والمسبب ؛ والموجد للصلة بينها.

فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم فى العدد والعدد والسلاح ؛ وفى سائر عتاد الجيش ولذا قال.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي إنكم إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا وينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم وأنتم يومئذ فى قلة من العدد وفى غير منعة من الناس ؛ حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم وعظيم منعتهم ؛ فأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ ؛ فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم فى ذلك اليوم.

٥٥

ولا ضير فى الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة والظالمين ، ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا بمستذلّين من الكفار ، وإنما كانت قوتهم أول تكوّنها.

(فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فاتقوا الله ربكم بطاعته واجتناب محارمه ، لتعدّوا أنفسكم لشكره ، على ما منّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم ، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم ، إذ من لم يروّض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى واتباع الشهوات ، فلا يرجى منه الشكر لأنعم الله بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم والمنافع.

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد نصركم الله ببدر فى ذلك الحين الذي كنت تقول فيه لهم : ألن يكفيكم إلخ.

أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشّعبى أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين ، فشق ذلك عليهم ، فأنزل الله ـ ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم ـ إلى قوله : من الملائكة مسوّمين ، فبلغته هزيمة المشركين فلم يمدّ أصحابه ، ولم يمدّوا بالخمسة الآلاف.

(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) قال الفخر الرازي فى التفسير الكبير : أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر ، وأنهم قاتلوا الكفار.

قال ابن عباس رضى الله عنهما : لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر ، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون.

(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) أي بلى يكفيكم ذلك ، ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم.

أي إن تصبروا على لقاء العدو ومناهضتهم ، وتتقوا معصية الله ، ومخالفة نبيه

٥٦

صلى الله عليه وسلم ، ويجئكم المشركون من ساعتهم هذه ـ يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ليعجل نصركم ، ويسهل فتحكم.

قال ابن جرير : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ، ثم وعدهم بعد الثلاثة. الآلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا ، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ، ولا بالخمسة الآلاف ، ولا على أنهم لم يمدوا بهم ، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم ، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك ، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ، ولا بالخمسة الآلاف ، وغير جائز أن يقال فى ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به ، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله :

غير أن فى القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة ، وذلك قوله : «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ».

أما فى أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها فى أنهم أمدّوا ، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل اه.

والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد فى قوة القوم ، وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا ، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبّتها وتقوى عزيمتها.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) قال الزجاج : وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى اه.

يعنى وما جعل الله ذلك القول الذي قاله الرسول لكم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية

٥٧

إلا بشرى يفرخ بها روعكم ، وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدد عدوكم وعظيم استعداده.

وفى هذا إيماء إلى أن فى ذكر الإمداد غايتين :

(١) إدخال السرور فى القلوب.

(٢) حصول الطمأنينة ببيان أن معونة الله ونصرته معهم ، فلا يجبنوا عن المحاربة.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) العزيز هو القوى الذي لا يمتنع عليه شىء ، والحكيم هو الذي يدبّر الأمور على خير السنن وأقوم الوسائل ، فيهدى لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء ، ويصرفهما عمن يشاء.

والمراد ـ أنه يجب توكلكم على الله لا على الملائكة ، فيجب على العبد ألا يتكل على الأسباب فقط ، بل يقبل على مسبب الأسباب ، إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات ، فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته ، ولا المعونة إلا من فضله وكرمه.

فإن حصل الإمداد بالملائكة فليس ذلك إلا جزءا من أسباب النصر ، وهناك أسباب أخرى كإلقاء الرعب فى قلوب الأعداء ، ومعرفة المواقع ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها على العدو ، وعسكر فى أحسن موضع وهو الشّعب (الوادي) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل ، وجعل الرماة من ورائهم ، إلى نحو ذلك من الأسباب التي تمكنه من الظهور على عدوه ، والغلبة عليه.

فلما اختل بعض هذه التدبيرات ، وفات الرماة مواضعهم لم ينتصروا.

والذي عليه أهل العلم أنه لم يحصل يوم أحد إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك ، وإنما أخبر عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على شروط ثلاثة :

(١) الصبر. (٢) التقوى. (٣) إتيان الأعداء من فورهم ، ولم تتحقق هذه الشروط ، فلم يحصل الإمداد ، ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة.

٥٨

وحصل الإمداد بالفعل فى وقعة بدر كما تقدم ذكره ، وسيأتى مزيد تفصيل له فى سورة الأنفال.

وربما سأل سائل عن الفارق بين اليومين فقال : لم أمدّ الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم ، وحرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب! وجوابنا عن هذا أن المؤمنين كانوا يوم بدر فى قلة وذلة من الضعف والحاجة ، فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله ، وما وهبهم من قوة فى أبدانهم ونفوسهم ، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال : «إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

ولم يكن فى نفوسهم تطلع إلى شىء سوى النصر ، وإقامة الدين والدفاع عن حوزته. فكانت أرواحهم بهذا

الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوّى بالاتصال بها.

أما فى يوم أحد فقد كان بعضهم فى أول القتال قريبا من الافتتان بما كان من المنافقين ، ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا ، ولكن الله ثبتهما وباشرا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا وهزموا المشركين ، ثم خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وطمعوا فى الغنيمة وتنازعوا فى الأمر ففشلوا وضعف استعداد أرواحهم ، فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة ، فلم يكن لهم منهم مدد.

وحكمة ما حصل تمحيص المؤمنين كما سيأتى فى قوله (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ) الآية ، وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى فى ارتباط الأسباب بالمسببات ، ومعرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول ، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغى أن يثبط الهمم ، ولا يدعو إلى الانقلاب على الأعقاب ، وأن كل ما يصيب العباد من مصايب فهو نتيجة عملهم ، وعقوبة طبيعية على أفعالهم ، إلى نحو ذلك من الأسرار التي ستعلمها بعد.

٥٩

روى أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو يوم بدر : اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا ـ وما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه فرداه به ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا نبى الله كفاك مناشدتك لربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، وأنزل الله يومئذ «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ» الآية.

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أي إن المقصود من نصركم بامداد الملائكة أن يهلك طائفة منهم ، ويخزى طائفة أخرى ويغيظهم بالهزيمة ، فيرجعوا خائبين لا أمل لهم فى نصر.

وعبر بالطرف لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط ، فهو أول ما يوصل إليه من الجيش ، وقد أهلك الله من المشركين طائفة أول الحرب يوم أحد ، قدر عددهم بنحو ثمانية عشر رجلا.

وعبر بالخيبة دون اليأس ، لأن الأولى لا تكون إلا بعد توقع النصر وانتظاره ، والثانية بعده وبدونه ، وضد الخيبة الظفر ، وضد اليأس الرجاء.

ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله فقال :

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي ليس إليك أيها الرسول من أمر خلقى إلا أن تنفذ فيهم أمرى ، وتنتهى فيهم إلى طاعتى ، ثم أمرهم بعد ذلك ، والقضاء فيهم بيدي دون غيرى ، أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة ، أو عاجل العذاب بالقتل والنقم ، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر بي من العذاب فى الآخرة.

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) أي ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، ليس لك من الأمر شىء.

روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ،

٦٠