الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة - ج ٢

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]

الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة - ج ٢

المؤلف:

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]


المحقق: جواد القيّومي الاصفهاني
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-300-5
الصفحات: ٥١٥

الْعُتْبى عِنْدِي فِيما اسْتَطَعْتُ ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ.

اللهُمَّ إِنَّكَ لَسْتَ بِرَبٍّ اسْتَحْدَثْناكَ ، وَلا كانَ مَعَكَ إِلهٌ أَعانَكَ [ تَعالَى اللهُ عَ ] (١) مّا ما يَقُولُ الْقائِلُونَ ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ وَبارِكْ لِي فِي الْمَوْتِ إِذا نَزَلَ بِي ، وَاجْعَلْ لِي فِيهِ راحَةً وَفَرَجاً ، اللهُمَّ فَكَما (٢) حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلْقِي ، اللهُمَّ إِنِّي ضَعِيفٌ فَقَوِّ فِي رِضاكَ ضَعْفِي ، وَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِناصِيَتِي ، وَاجْعَلِ الإِسْلامَ مُنْتَهى رِضايَ.

اللهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ وَاشْهِدُ مَلائِكَتَكَ وَكَفى بِكَ شَهِيداً ، أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَخِيَرَتُكَ مِنْ خَلْقِكَ ، وَأَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ عَرْشِكَ إِلى قَرارِ أَرْضِكَ السَّابِعَةِ باطِلٌ ما خَلا وَجْهِكَ الْكَرِيمِ ، الدّائِم الَّذِي لا يَزُولُ ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ ، وَاكْشِفْ ما بِي مِنْ ضُرٍّ ، وَحَوِّلْهُ عَنِّي يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ، وَانَّكَ تَفْعَلُ ما تَشاءُ وَانَّ مَيْسُورَ الْعَسِيرِ عَلَيْكَ يَسِيرٌ.

اللهُمَّ يَسِّرْ مِنْ أَمْرِي ما عُسِرَ ، وَسَهِّلْ ما صَعُبَ ، وَلَيِّنْ ما غَلُظَ ، وَفَرِّجْ ما لا يُفَرِّجُهُ أَحَدٌ غَيْرُكَ ، بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ الدّائِمِ التَّامِّ ، وَبِحَقِّ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ ، وَبِحَقِّ الرُّوحانِيِّينَ الَّذِينَ لا يَفْتُرُونَ إِلاَّ بِتَعْظِيمِ عِزِّ جَلالِكَ ، وَبِالثَّناءِ عَلَيْكَ ، وَلا يَبْلُغُونَ ما أَنْتَ مُسْتَحِقُّهُ مِنْ عَظِيمِ عِزِّكَ وَعُلُوِّ شَأْنِكَ.

اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي تَجَلَّيْتَ بِهِ لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ، وَبِالاسْمِ الْمَخْزُونِ الْمَكْنُونِ ، وَبِاسْمِكَ الَّذِي فَلَقْتَ (٣) بِهِ الْبَحْرَ لِمُوسى بْنِ عِمْرانَ فَصارَ كُلُّ فرقٍ كَالطَّوْدِ (٤) الْعَظِيمِ ، وَبِاسْمِكَ الَّذِي ذَلَّ لَهُ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ.

__________________

(١) هو الظاهر.

(٢) كما ( خ ل ).

(٣) فلق الشّيء : شقّه.

(٤) الطود : الجبل العظيم.

٣٠١

وَبِاسْمِكَ الَّذِي وَضَعْتَهُ عَلَى النَّهارِ فَأَضاءَ وَعَلَى اللَّيْلِ فَأَظْلَمَ أَنْ تُصَلِّي عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْ تَجْعَلَنِي مِنَ التَّوَّابِينَ الْمُتَطَهِّرِينَ وَتَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، وَتَغْفِرَ لِوالِدَيَّ كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ، وَعَلِّمانِي كِتابَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ ، وَتُدْخِلَ عَلَيْهِما رَأْفَةً مِنْكَ وَرَحْمَةً ، وَبَدِّلْ سَيِّئاتِهِما حَسَناتٍ وَتَقَبَّلْ مِنْهُمَا ما أَحْسَنا ، وَتَجاوَزْ عَنْهُما ما أَساءا ، فَإِنَّكَ أَوْلى بِالْجُودِ ، وَاجْعَلْهُما مِنَ الَّذِينَ رَضِيتَ عَنْهُمْ ، وَأَسْكَنْتَهُمْ جَنَّاتِكَ النَّعِيمِ بِرَحْمَتِكَ لا بِأَعْمالِهِمْ ، تَفَضُّلاً مِنْكَ عَلَيْهِمْ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ وَعِزَّتِكَ وَسُلْطانِكَ.

يا مَنْ لَهُ الْحَمْدُ وَلا يَنْبَغِي الْحَمْدُ إِلاّ لَهُ ، يا كَرِيمَ الإِحْسانِ ، يا مَنْ يَبْقى وَيَفْنى كُلُّ شَيْءٍ ، يا مَنْ يَرى وَلا يُرى وَهُوَ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلى ، وَمَنْ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبٌ ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ رَءُوفٌ وَعَلى كُلِّ شَيْءٍ قابِلٌ شَهِيدٌ ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ.

وَأَسْأَلُكَ بِالاسْمِ الَّذِي وَضَعْتَ بِهِ الْجِبَالَ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْتَقَرَّتْ ، وَبِالاسْمِ الَّذِي وَضَعْتَهُ عَلَى السَّماواتِ فَاسْتَقَلَّتْ ، أَنْ تُنْجِيَنِي مِنَ النَّارِ ، وَتُجِيزَنِي الصِّراطَ بِقُدْرَتِكَ ، وَوالِدَيَّ وَحامَّتِي (١) وَقَرابَتِي (٢) وَجِيرانِي وَمَنْ أَحَبَّنِي ، وَكُلَّ ذِي رَحِمٍ فِي الإِسْلامِ دَخَلَ إِلَيَّ ، بِنُورِكَ الَّذِي لا يُطْفَأُ ، وَبِعِزَّتِكَ الَّتِي لا تُرامُ ، وَاكْفِنِي ما لا يَكْفِنِيهِ أَحَدٌ سِواكَ ، وَما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، وَاسْتُرْنِي بِسِتْرِكَ الْجَمِيلِ ، وَعافِنِي بِقُدْرَتِكَ مِنْ عَذابِكَ وَعِقابِكَ.

اللهُمَّ إِنَّكَ عالِمٌ غَيْرُ مُتَعَلِّمٍ ، وَأَنْتَ عالِمٌ بِحالِي وَأَمْرِي ، فَاجْعَلْ لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ نَصِيباً وَإِلى كُلِّ خَيْرٍ سَبِيلاً ، اللهُمَّ وَاجْعَلْ لِي سَهْماً فِي دُعاءِ مَنْ دَعاكَ رَجاءَ الثَّوابِ مِنْكَ فِي مَشارِقِ الْأَرْضِ وَمَغارِبِها مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَتَقَبَّلْ دُعاءَهُمْ وَأَعِنْهُمْ عَلى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا يُقْدَرُ عَلَيْكَ ، وَلا يَدْفَعُ الْبَلاءَ غَيْرُكَ.

__________________

(١) الحامة : خاصة الرجل من أهله وولده الذين يهتم لهم.

(٢) قراباتي ( خ ل ).

٣٠٢

يا مَعْرُوفاً بِالإِحْسانِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ أَنْتَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ ، وَأَنْتَ مُدَبِّرُ الأُمُورِ وَأَنْتَ تَخْتارُ لِعِبادِكَ ، فَاجْعَلْنِي مِمَّنِ اخْتَرْتَهُ لِطاعَتِكَ ، وَأَمِنْتَهُ مِنْ عَذابِكَ يَوْمَ يَخْسُرُ الْمُبْطِلُونَ ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التوَّابُ الرَّحِيمُ.

وَاخْتَرْنِي وَاخْتَرْ وُلْدِي فَقَدْ خَلَقْتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ ، وَرَزَقْتَ فَأَفْضَلْتَ ، فَتَمِّمْ نِعْمَتَكَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَهْلِ عِنايَتِي ، وَأَوْسِعْ عَلَيْنا فِي رِزْقِكَ ، وَلا تُشْمِتْ (١) بِنا عَدُوّاً وَلا حاسِداً ، وَلا باغِياً وَلا طاغِياً ، وَاحْرُسْنا بِعَيْنِكَ الَّتِي لا تَنامُ.

اللهُمَّ هذَا الدُّعاءُ وَعَلَيْكَ الإِجابَةُ ، وَأَنْتَ الْمُسْتَعانُ وَعَلَيْكَ التَّكِلانُ ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِكَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَّبِيِّينَ ، وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً ، وَحَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (٢).

ومن الدّعوات في يوم الغدير من رواية أخرى :

اللهُمَّ بِنُورِكَ اهْتَدَيْتُ ، وَبِفَضْلِكَ اسْتَغْنَيْتُ ، وَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (٣) ، وَقُلْتَ : ( ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) (٤) ، وَقُلْتَ : ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) (٥).

اللهُمَّ فَانِّي أَسْأَلُكَ وَاشْهِدُكَ وَاشْهِدُ مَلائِكَتَكَ أَنَّكَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدَكَ وَرَسُولَكَ نَبِيِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، وَأَنَّ عَلِيّاً أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَوْلايَ وَوَلِيِّي عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي فِي هذا الْيَوْمِ ، وَفِي هذَا الْوَقْتِ ، ما سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِي وَتُصْلِحَنِي فِيما بَقِيَ مِنْ عُمْرِي.

__________________

(١) شمت بفلان : فرح ببليته.

(٢) عنه البحار ٩٨ : ٣٠٨ ـ ٣١٨.

(٣) النساء : ٦٤.

(٤) الفرقان : ٧٧.

(٥) البقرة : ١٨٦.

٣٠٣

اللهُمَّ إِيماناً بِكَ وَتَصْدِيقاً بِوَعْدِكَ ، حَتّى أَكُونَ عَلَى النَّهْجِ الَّذِي تَرْضاهُ ، وَالطَّرِيقِ الَّذِي تُحِبُّهُ ، فَإِنَّكَ عُدَّتِي عِنْدَ شِدَّتِي وَوَلِيُّ نِعْمَتِي.

اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَفْحَةً مِنْ نَفَحاتِكَ كَرِيمَةً تَلُمُّ بِها شَعْثِي (١) ، وَتُصْلِحُ بِها شَأْنِي ، وَتُوَسِّعُ بِهَا رِزْقِي ، وَتَقْضِيَ بِهَا دَيْنِي ، وَتُعِينُنِي بِها عَلى جَمِيعِ أُمُورِي ، فَإِنَّكَ عِنْدَ شِدَّتِي ، فَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْ تُصْلِحَ لِي أَحْوالَ الدُّنْيا وَالاخِرَةِ.

اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَلَمْ يَسْأَلِ السَّائِلُونَ أَكْرَمَ مِنْكَ ، وَأَطْلُبُ إِلَيْكَ وَلَمْ يَطْلُبِ الطّالِبُونَ إِلى أَحَدٍ أَجْوَدَ مِنْكَ ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْ تُبَلِّغَنِي فِي هذا الْيَوْمِ امْنِيَّةَ الدُّنْيا وَالاخِرَةِ ، اللهُمَّ فارِجَ الْغَمِّ وَمُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ ، اللهُمَّ فارِجَ الْغَمِّ إِنِّي مَغْمُومٌ فَفَرِّجْ عَنِّي ، اللهُمَّ إِنِّي مَهْمُومٌ فَاكْشِفْ هَمِّي.

اللهُمَّ إِنِّي مُضْطَرٌّ فَسَهِّلْ لِي ، اللهُمَّ إِنِّي مَدْيُونٌ فَاقْضِ دَيْنِي ، اللهُمَّ إِنِّي ضَعِيفٌ فَقَوِّ ضَعْفِي ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ رِزْقِكَ رِزْقاً واسِعاً حَلالاً طَيِّباً ، أَسْتَعِينُ بِهِ وَأَعِيشُ بِهِ بَيْنَ خَلْقِكَ ، رِزْقاً مِنْ عِنْدِكَ لا أَبْذُلُ فِيهِ وَجْهِي لِأَحَدٍ مِنْ عِبادِكَ ، أَنْتَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَما وَلَدا وَأَهْلِ قَرابَتِي وَإِخْوانِي مَنْ عَرَفْتُ وَمَنْ لَمْ أَعْرِفْ ، اللهُمَّ اجْزِهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمالِهِمْ وَأَوْصِلْ إِلَيْهِمُ الرَّحْمَةَ وَالسُّرُورَ ، وَاحْشُرْهُمْ مَعَ رَسُولِكَ وَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيائِهِمْ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَصَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَسَلَّمَ (٢).

ومن الدّعوات في يوم الغدير ما رويناه بإسنادنا عن الشيخ المفيد رضوان الله عليه :

__________________

(١) الشعث : انتشار الأمر وخلله ، يقال : لمّ الله شعثهم : جمع أمرهم.

(٢) عنه البحار ٩٨ : ٣١٩.

٣٠٤

اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ نَبِيِّكَ وَعَلِيٍّ وَلِيِّكَ ، وَالشَّأْنِ وَالْقَدْرِ الَّذِي خَصَّصْتَهُما بِهِ دُونَ خَلْقِكَ ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَأَنْ تَبْدَأَ بِهِما فِي كُلِّ خَيْرٍ عاجِلٍ ، اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الْأَئِمَّةِ الْقادَةِ ، وَالدُّعاةِ السّادَةِ ، وَالنُّجُومِ الزّاهِرَةِ ، وَالْأَعْلامِ الْباهِرَةِ ، وَساسَةِ الْعِبادِ ، وَأَرْكانِ الْبِلادِ ، وَالنَّاقَةِ الْمُرْسَلَةِ ، وَالسَّفِينَةِ النّاجِيَةِ الْجارِيَةِ فِي اللُّجَجِ الْغامِرَةِ (١).

اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، خُزّانِ عِلْمِكَ وَأَرْكانِ تَوْحِيدِكَ ، وَدَعائِمِ دِينِكَ ، وَمَعادِنِ كَرامَتِكَ وَصَفْوَتِكَ مِنْ بَرِيَّتِكَ ، وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ ، الأَتْقِياءِ النُّجَباءِ الْأَبْرارِ ، وَالْبابِ الْمُبْتَلى بِهِ النّاسُ ، مَنْ أَتاهُ نَجى وَمَنْ أَباهُ هَوى.

اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، أَهْلِ الذِّكْرِ الَّذِينَ أَمَرْتَ بِمَسْأَلَتِهِمْ ، وَذَوِي الْقُرْبى الَّذِينَ أَمَرْتَ بِمَوَّدَتِهِمْ ، وَفَرَضْتَ حَقَّهُمْ ، وَجَعَلْتَ الْجَنَّةَ مَعادَ مَنِ اقْتَفى (٢) آثارَهُمْ ، اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَما أَمَرُوا بِطاعَتِكَ ، وَنَهَوْا عَنْ مَعْصِيَتِكَ ، وَدَلُّوا عِبادَكَ عَلى وَحْدانِيَّتِكَ.

اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ نَبِيِّكَ وَنَجِيبِكَ (٣) وَصَفْوَتِكَ وَأَمِينِكَ وَرَسُولِكَ إِلى خَلْقِكَ ، وَبِحَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَيَعْسُوبِ الدِّينِ ، وَقائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجِّلِينَ ، الْوَصِيِّ الْوَفِيِّ ، وَالصِّدِيقِ الْأَكْبَرِ ، وَالْفارُوقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْباطِلِ وَالشّاهِدِ لَكَ ، وَالدّالِّ عَلَيْكَ ، وَالصّادِعِ بِأَمْرِكَ ، وَالْمُجاهِدِ فِي سَبِيلِكَ ، لَمْ تَأْخُذْهُ فِيكَ لَوْمَةُ لائِمٍ.

أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْ تَجْعَلَنِي فِي هذَا الْيَوْمِ الَّذِي عَقَدْتَ فِيهِ لِوَلِيِّكَ الْعَهْدَ فِي أَعْناقِ خَلْقِكَ وَأَكْمَلْتَ لَهُمُ الدِّينَ مِنَ الْعارِفِينَ بِحُرْمَتِهِ وَالْمُقِرِّينَ بِفَضْلِهِ ، مِنْ عُتَقائِكَ وَطُلَقائِكَ مِنَ النّارِ ، وَلا تُشْمِتْ بِي

__________________

(١) اللجّة : معظم الماء ، غمر الماء : علاه وغطّاه.

(٢) اقتصّ ( خ ل ) ، أقول : اقتفى الشّيء : اختاره ، اقتص أثره : اتبعه.

(٣) نجيك ( خ ل ).

٣٠٥

حاسِدِي النِّعَمِ.

اللهُمَّ فَكَما جَعَلْتَهُ عِيدَكَ الْأَكْبَرَ وَسَمَّيْتَهُ فِي السَّماءِ يَوْمَ الْعَهْدِ الْمَعْهُودِ ، وَفِي الْأَرْضِ يَوْمَ الْمِيثاقِ الْمَأْخُوذِ ، وَالْجَمْعِ الْمَسْؤُولِ ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَقْرِرْ بِهِ عُيُونَنا ، وَاجْمَعْ بِهِ شَمْلَنا ، وَلا تُضِلَّنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا (١) ، وَاجْعَلْنا لِأَنْعُمِكَ مِنَ الشّاكِرِينَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَرَّفَنا فَضْلَ هذا الْيَوْمِ ، وَبَصَّرَنا حُرْمَتَهُ ، وَكَرَّمَنا بِهِ ، وَشَرَّفَنا بِمَعْرِفَتِهِ ، وَهَدانا بِنُورِهِ ، يا رَسُولَ اللهِ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُما وَعَلى عِتْرَتِكُما وَعَلى مُحِبِّيكُما مِنِّي أَفْضَلُ السَّلامِ ، ما بَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ ، وَبِكُما أَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُما فِي نَجاحِ طَلِبَتِي وَقَضاءِ حَوائِجِي وَتَيْسِيرِ أُمُورِي.

اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْ تَلْعَنَ مَنْ جَحَدَ حَقَّ هذَا الْيَوْمِ وَأَنْكَرَ حُرْمَتَهُ ، فَصَدَّ عَنْ سَبِيلِكَ لِاطْفاءِ نُورِكَ ، فَأَبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ.

اللهُمَّ فَرِّجْ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّكَ ، وَاكْشِفْ عَنْهُمْ وَبِهِمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُرُباتِ ، اللهُمَّ امْلاءِ الْأَرْضَ بِهِمْ عَدْلاً كَما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً ، وَأَنْجِزْ لَهُمْ ما وَعَدْتَهُمْ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (٢).

فصل (١٦)

فيما نذكره من زيارة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، يزار بها بعد الصلاة والدعاء يوم الغدير السعيد ، من قريب أو بعيد

روى عدّة من شيوخنا عن أبي عبد الله محمد بن أحمد الصفواني من كتابه بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا كنت في يوم الغدير في مشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فادن من

__________________

(١) وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ( خ ل ).

(٢) عنه البحار ٩٨ : ٣٢٠.

٣٠٦

قبره بعد الصّلاة والدعاء ، وان كنت في بعد فأوم إليه بعد الصلاة ، وهذا الدعاء :

اللهُمَّ صَلِّ عَلى وَلِيِّكَ وَأَخِي نَبِيِّكَ ، وَوَزِيرِهِ وَحَبِيبِهِ ، وَخَلِيلِهِ وَمَوْضِعِ سِرِّهِ ، وَخِيرَتِهِ مِنْ اسْرَتِهِ ، وَوَصِيِّهِ وَصَفْوَتِهِ ، وَخالِصَتِهِ وَامِينِهِ وَوَلِيِّهِ وَاشْرَفِ عِتْرَتِهِ ، الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ، وَابِي ذُرِّيَّتِهِ وَبابَ حِكْمَتِهِ ، وَالنّاطِقِ بِحُجَّتِهِ ، وَالدّاعِي إِلى شَرِيعَتِهِ وَالْماضِي عَلى سُنَّتِهِ (١) ، وَخَلِيفَتِهِ عَلى أُمَّتِهِ ، سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ، وَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ ، افْضَلَ ما صَلَّيْتَ عَلى احَدٍ مِنْ خَلْقِكَ وَأَصْفِيائِكَ وَأَوْصِياءِ أَنْبِياءِكَ.

اللهُمَّ إِنِّي اشْهَدُ انَّهُ قَدْ بَلَّغَ عَنْ نَبِيِّكَ ما حَمَّلَ ، وَرَعى ما اسْتُحْفِظَ ، وَحَفِظَ ما اسْتُودِعَ ، وَحَلَّلَ حَرامَكَ ، وَحَرَّمَ حَرامَكَ ، وَأَقامَ أَحْكامَكَ ، وَدَعى إِلى سَبِيلِكَ ، وَوالى أَوْلِياءَكَ ، وَعادى أَعْداءَكَ ، وَجاهَدَ النَّاكِثِينَ (٢) عَنْ سَبِيلِكَ وَالْقاسِطِينَ وَالْمارِقِينَ عَنْ امْرِكَ ، صابِراً مُحْتَسِباً غَيْرَ مُدْبِرٍ ، لا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ ، حَتَّى بَلَغَ فِي ذلِكَ الرِّضا سَلَّمَ الَيْكَ الْقَضاءَ ، وَعَبَدَكَ مُخْلِصاً ، وَنَصَحَ لَكَ مُجْتَهِداً ، حَتّى أَتاهُ الْيَقِينُ.

فَقَبَضْتَهُ الَيْكَ شَهِيداً سَعِيداً ، وَلِيّاً تَقِيّاً رَضِيّاً زَكِيّاً ، هادِيّاً مَهْدِيّاً ، اللهُمَّ صَل عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ ، افْضَلَ ما صَلَّيْتَ عَلى احَدٍ مِنْ أَنْبِيائِكَ وَأَصْفِيائِكَ يا رَبَّ الْعالَمِينَ (٣).

فصل (١٧)

فيما نذكره ممّا ينبغي أن يكون عليه حال أولياء هذا العيد السّعيد في اليوم المعظّم المشار إليه

أعلم إنّنا قد ذكرنا في عيد الفطر وعيد الأضحى وغيرهما فيما مضى ، ما يكون

__________________

(١) سننه ( خ ل ).

(٢) نكث العهد : نقضه ونبذه.

(٣) عنه البحار ١٠٠ : ٢٧٣.

٣٠٧

الإنسان عليه مع الله جلّ جلاله في تحصيل كمال العفو والرضا ، وإذا عرفت كما قدّمناه فضل عيد الغدير على كلّ وقت ذكرناه.

فينبغي ان تكون في هذا العيد على قدر فضله على كلّ يوم سعيد ، فتكون عند المجالسة لشرف تلك الأوقات ، كما لو جالست مماليك سلطان معظمين في الحرمات والمقامات ، وتكون في عيد الغدير كما لو جالست سلطان أولئك المماليك المعظمين ، وصاحبت مولاهم الّذي هم علاقة عليه في أمور الدنيا والدين.

فاجتهد في احترام ساعاته والتزام حقّ حرماته وصحبته لشكر الله جلّ جلاله على تشريفك بمعرفته وتأهليك لكرامته ، وتجميلك بتجديد نعمته.

وقد قدّمنا في اخبار فضله آدابا وأسبابا يعملها المسعودون في ذلك اليوم ، فاعمل عليها ، فإنّها من تدبير العارفين.

فصل (١٨)

فيما نذكره من فضل تفطير الصائمين فيه

أقول : قد قدّمنا فيما مضى من الفصول فضلا عظيما لمن فطّر صائما ليوم الغدير ، وأوضحنا ذلك بالمنقول ، فنذكر هاهنا زيادة من طريق المعقول ، فنقول :

إذا كان لكلّ صائم في ذلك العيد ما ذكرناه من الحظّ السعيد ، فإذا قمت بإفطارهم ومسارّهم وحفظ القوّة الّتي بذلوها لله جلّ جلاله في نهارهم ، فكأنّك قد ملّكتها عليهم ، أو صرت شريكا لهم في كلّ ما وصل من الله جلّ جلاله إليهم بالمقدار اليسير الّذي تخرجه في فطور الصائم.

وقد شهد العقل انّ من قدر على الظفر بالغنائم وبالمماليك وبالسعادات وبالعنايات بقوت يوم واحد لبعض أهل الضرورات ، فإنّه يغتنم ذلك بأبلغ الإمكان ولا يسامح نفسه بالتّهوين لهذا المطلب العظيم الشأن ، وكفاك انّك تعظّم بذلك ما عظّم مولاك ومالك دنياك وأخراك ، ويا طوباك ان يبلغ خير خلق الله جلّ جلاله محمّدا صلوات الله عليه ومولاك أمير المؤمنين صلوات الله عليه ومن يكون حديثك بعدهما إليه انّك عظمت يوما

٣٠٨

عزيزا عليهم ، وأكرمت كريما لديهم ورفعت رايات معالمهم المذكورة ، وقطعت شبهات من سعى في تعظيم آيات مواسمهم المشهورة ، فتكون كمن كان صدقت محبته وتعطّرت فضائله وظهرت دلائله :

وتهتزّ للمعروف في طلب العلى (١)

لتذكر يوما عند ليلى شمائله

فصل (١٩)

فيما نذكره ممّا يختم به يوم عيد الغدير

اعلم انا قد عرّفناك بعض ما عرفناه من شرف هذا اليوم وتعظيمه عند الله جلّ جلاله وعند من اتّبع رضاه ، فكن عند أواخر نهاره ذاكرا لمعرفة قدره ، متأسّفا على إبعاده ، تأسّف المغرم (٢) بفراق أهل وداده ، متلهّفا ان يؤهّلك الله جلّ جلاله ليوم إظهار إسراره ، وان يجعلك من أعوان المولى المذخور لرفع منارة ، ويشرفك بان يكتب اسمك في ديوان أنصاره ، ويضمّ مثل ما عملت في اليوم المذكور السعيد بلسان الحال ، كما يفعل المؤدّب من العبيد.

وتعرّضه على من كنت ضيفا له من نوّاب الله جلّ جلاله وخاصّته ، الّذين هم الوسائل بينك وبين رحمته وحفظ نعمته ، وتسأل ان يتمّموا ما فيه من نقصان ، ويربحوا ما تخاف على علمك من خسران ، وان يسلّموه من يد لسان حالهم إلى الملكين الحافظين الكاتبين بجميع أعمالك في ذلك النهار ، أو يعرضوه على مزيد كمالهم على وجه الله جلّ جلاله ، عرضا يليق بالثابت المكمّل في صفات الأبرار على مولى الممالك المطّلع على الأسرار.

فتكون قد أدّيت الأمانة في يومك وفي عملك ، واجتهدت في حفظ حرمته ومحلّه ، وسلّمت كلّ تفويض وتسليم إلى أهله.

__________________

(١) اهتز : تحرك.

(٢) اغرم بالشيء : أولع به فهو مغرم.

٣٠٩

الباب السادس

فيما يتعلّق بمباهلة سيّد أهل الوجود لذوي الجحود ،

الّذي لا يساوي ولا يجازي ، وظهور حجّته على النّصارى والحبارى وانّ في يوم مثله

تصدّق أمير المؤمنين عليه‌السلام بالخاتم ، ونذكر ما يعمل من المراسم

وفيه فصول :

فصل (١)

فيما نذكره من إنفاذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لرسله إلى نصارى نجران ودعائهم إلى الإسلام والايمان ، ومناظرتهم فيما بينهم ، وظهور تصديقه فيما دعا إليه

روينا ذلك بالأسانيد الصحيحة والروايات الصّريحة إلى أبي المفضّل محمد بن المطلب الشيباني رحمه‌الله من كتاب المباهلة ، ومن أصل كتاب الحسن بن إسماعيل بن أشناس من كتاب عمل ذي الحجّة ، فيما رويناه بالطرق الواضحة عن ذوي الهمم الصالحة ، لا حاجة إلى ذكر أسمائهم ، لأنّ المقصود ذكر كلامهم ، قالوا :

لمّا فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة ، وانقادت له العرب ، وأرسل رسله ودعاته الى الأمم ، وكاتب الملكين ، كسرى وقيصر ، يدعوهما إلى الإسلام ، والاّ أقرّا بالجزية والصّغار ، والاّ أذنا بالحرب العوان (١) ، أكبر شأنه نصارى نجران وخلطاؤهم من بني

__________________

(١) الحرب العوان : الحرب التي قوتل فيها مرة بعد الأخرى ، وهي أشدّ الحروب.

٣١٠

عبد المدان وجميع بني الحارث بن كعب ، ومن ضوى إليهم (١) ، ونزل بهم من دهماء الناس (٢) على اختلافهم هناك في دين النصرانيّة من الأروسيّة والسالوسيّة وأصحاب دين الملك والمارونية والعبّاد والنسطوريّة ، واملأت قلوبهم على تفاوت منازلهم رهبة منه ورعبا ، فإنّهم كذلك من شأنهم.

إذا وردت عليهم رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابه ، وهم عتبة بن غزوان وعبد الله بن أبي أميّة والهدير بن عبد الله أخو تيم بن مرّة وصهيب بن سنان أخو النّمر بن قاسط ، يدعوهم إلى الإسلام ، فإن أجابوا فاخوان ، وان أبوا واستكبروا فإلى الخطّة (٣) المخزية (٤) إلى أداء الجزية عن يد ، فان رغبوا عمّا دعاهم إليه من أحد المنزلتين (٥) وعندوا فقد آذنهم على سواء ، وكان في كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (٦).

قالوا : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل قوما حتّى يدعوهم ، فازداد القوم لورود رسل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه نفورا وامتزاجا ، ففزعوا لذلك إلى بيعتهم العظمى وأمروا ، ففرش أرضها وألبس جدرها بالحرير والديباج ، ورفعوا الصّليب الأعظم ، وكان من ذهب مرصّع ، أنفذه إليهم قيصر الأكبر ، وحضر ذلك بني الحارث بن كعب ، وكانوا ليوث الحرب فرسان النّاس ، قد عرفت العرب ذلك لهم في قديم أيامهم في الجاهليّة.

فاجتمع القوم جميعا للمشورة والنظر في أمورهم ، وأسرعت إليهم القبائل من مذحج ، وعك وحمير وانمار ، ومن دنا منهم نسبا ودارا من قبائل سبا ، وكلّهم قد ورم انفه غضبا

__________________

(١) ضويت إليه : إذا أديت إليه.

(٢) دهماء الناس : جماعتهم.

(٣) الخطة : الأمر والقصّة.

(٤) المخوفة ( خ ل ).

(٥) المنزلين ( خ ل ).

(٦) آل عمران : ٦٧.

٣١١

لقومهم ، ونكص (١) من تكلّم منهم بالإسلام ارتدادا.

فخاضوا وأفاضوا في ذكر المسير بنفسهم وجمعهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والنزول به بيثرب لمناجزته (٢) ، فلمّا رأى أبو حامد حصين بن علقمة ـ أسقفهم الأوّل وصاحب مدارسهم وعلامهم ، وكان رجلا من بني بكر بن وائل ـ ما أزمع (٣) القوم عليه من إطلاق الحرب ، دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه ، وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة.

ثم قام فيهم خطيبا معتمدا على عصى وكانت فيه بقيّة وله رأي ورويّة وكان موحّدا يؤمن بالمسيح وبالنبي عليهما‌السلام ويكتم ذلك من كفرة قومه وأصحابه.

فقال : مهلا بني عبد المدان مهلا ، استديموا العافية والسعادة ، فإنّهما مطويّان في الهوادة (٤) ، دبّوا (٥) إلى قوم في هذا الأمر دبيب الزّور ، وإيّاكم والسّورة العجلي ، فانّ البديهة بها لا ينجب (٦) ، انّكم والله على فعل ما لم تفعلوا اقدر منكم على ردّ ما فعلتم ، الاّ انّ النجاة مقرونة بالأناة ، ألا ربّ احجام (٧) أفضل من اقدام ، وكائن من قول أبلغ من وصوله.

ثم أمسك ، فأقبل عليه كرز بن سبرة الحارثي ، وكان يومئذ زعيم بني الحارث بن كعب ، وفي بيت شرفهم ، والمعصب فيهم وأمير حروبهم ، فقال : لقد انتفخ (٨) سحرك واستطير قلبك أبا حارثة ، فظلّت كالمسبوع النزاعة الهلوع (٩) ، تضرب لنا الأمثال وتخوّفنا النزال (١٠) ، لقد علمت وحقّ المنّان بفضيلة الحفاظ بالنّوء باللعب ، وهو عظيم ، وتلقّح (١١) الحرب وهي عقيم تثقف أورد الملك الجبار ولنحن أركان الرّايس وذي المنار الّذين

__________________

(١) نكص عن الأمر : أحجم عنه. (٢) ناجزه : بارزة وقاتله.

(٣) أزمعت على أمر : أثبت عليه.

(٤) الهوادة : الصلح.

(٥) دبّ : مشى كالحية أو على اليدين والرجلين كالطفل.

(٦) نجب : حمد في نظره أو قوله أو فعله.

(٧) حجم عن الشيء : منع.

(٨) انتفخ : علا.

(٩) الهلوع : من يفزع من الشر.

(١٠) النزال : الحرب.

(١١) لقح الحرب : هاجت بعد سكون.

٣١٢

شددنا ملكهما وأمّرنا مليكهما ، فأيّ أيّامنا ينكر أم لأيّهما ويك تلمز (١) ، فما أتى على آخر كلامه حتى انتظم نصل نبلة كانت في يده بكفّه غيظا وغضبا وهو لا يشعر.

فلمّا أمسك كرز بن سبرة أقبل عليه العاقب ، واسمه عبد المسيح بن شرحبيل ، وهو يومئذ عميد القوم وأمير رأيهم وصاحب مشورتهم ، الّذي لا يصدرون جميعا الاّ عن قوله ، فقال له : أفلح وجهك وانس ربعك (٢) وعزّ جارك وامتنع ذمارك (٣) ، ذكرت وحقّ مغبرّة الجباه (٤) حسبا صميما ، وعيصا (٥) كريما وعزّا قديما ، ولكن أبا سبرة لكلّ مقام مقال ، ولكل عصر رجال ، والمرء بيومه أشبه منه بأمسه ، وهي الأيّام تهلك جيلا ، وتديل قبيلا ، والعافية أفضل جلباب ، وللآفات أسباب ، فمن أوكد أسبابها لتعرّض لأبوابها ، ثمّ صمت العاقب مطرقا.

فأقبل عليه السّيّد واسمه اهتم بن النعمان ، وهو يومئذ اسقف نجران ، وكان نظير العاقب في علوّ المنزلة ، وهو رجل من عاملة وعداده في لخم (٦) ، فقال له سعد : جدّك وسما جدّك أبا وائلة ، انّ لكلّ لامعة ضياء ، وعلى كلّ صواب نورا ، ولكن لا يدركه وحقّ واهب العقل إلاّ من كان بصيرا ، انّك أفضيت وهذان فيما تصرّف بكما الكلم إلى سبيلي حزن وسهل ، ولكلّ على تفاوتكم حظّ من الرأي الربيق (٧) والأمر الوثيق إذا أصيب به مواضعه ، ثمّ انّ أخا قريش قد نجدكم لخطب عظيم وأمر جسيم ، فما عندكم فيه قولوا وانجزوا (٨) ، أبخوع (٩) وإقرار أم نزوع (١٠).

__________________

(١) اللمز : العيب.

(٢) الربع : الدار ، المنزلة ، جماعة الناس.

(٣) الذمار : ما يلزمك حفظه.

(٤) أي الجباه المغبرة.

(٥) أي نسبا.

(٦) أي من قبيلة لخم.

(٧) الرأي الربيق : الذي عليه العزم كأنه كناية عن الشديد.

(٨) نجز الحاجة : قضاها.

(٩) البخوع : الطاعة والخضوع.

(١٠) أي انتهاء عنه.

٣١٣

قال عتبة والهدير والنفر من أهل نجران ، فعاد كرز بن سبرة لكلامه وكان كمّيا (١) أبيا ، فقال : أنحن نفارق دينا رسخت عليه عروقنا ومضى عليه آباؤنا وعرف ملوك النّاس ثمّ العرب ذلك منّا ، أنتهالك (٢) إلى ذلك أم نقرّ بالجزية وهي الخزية حقّا ، لا والله حتى نجرّد البواتر (٣) من أغمادها ، وتذهل الحلائل (٤) عن أولادها ، أو تشرق (٥) نحن محمّد بدمائنا ، ثم يديل (٦) الله عزّ وجلّ بنصره من يشاء.

قال له السيد : اربع (٧) على نفسك وعلينا أبا سبرة ، فان سلّ السيف يسلّ السيف ، وانّ محمّدا قد بخعت (٨) له العرب ، وأعطته طاعتها وملك رجالها واعنتها ، وجرت أحكامه في أهل الوبر (٩) منهم والمدر (١٠) ، ورمقه (١١) الملكان العظيمان كسرى وقيصر ، فلا أراكم والرّوح لو نهد (١٢) لكم ، الاّ وقد تصدّع عنكم من خفّ معكم من هذه القبائل ، فصرتم جفاء كأمس الذاهب أو كلحم على وضم (١٣).

وكان فيهم رجل يقال له : جهير بن سراقة البارقي من زنادقة نصارى العرب ، وكان له منزلة من ملوك النصرانيّة ، وكان مثواه بنجران ، فقال له أبا سعاد (١٤) : قل في أمرنا وانجدنا برأيك ، فهذا مجلس له ما بعده.

فقال : فإنّي أرى لكم أن تقاربوا محمّدا وتطيعوه في بعض ملتمسه عندكم ،

__________________

(١) كمّ : إذا قتل الشجعان.

(٢) تهالك في الأمر أو العدو : جدّ فيه مستعجلا.

(٣) البواتر : السيوف.

(٤) الحليل ج حلائل : الزوج لأنه يحل مع امرأته وتحل معه.

(٥) تشرق : تظهر.

(٦) يديل : ينصر.

(٧) اربع : ارفق.

(٨) بخعت : أطاعت.

(٩) الوبر ، هو للإبل كالصوف للغنم ، أهل الوبر : أهل البدو.

(١٠) المدر : الطين ، أهل المدر : أهل المدن والقرى لأنّ بنيانها غالبا من المدر.

(١١) رمقه : نظر إليه.

(١٢) نهد : نهض.

(١٣) الوضم : كل شيء يجعل عليه اللحم من خشب.

(١٤) سعد ( خ ل ).

٣١٤

ولينطلق وفودكم إلى ملوك أهل ملّتكم إلى الملك الأكبر بالرّوم قيصر ، وإلى ملوك هذه الجلدة السوداء الخمسة ، يعني ملوك السودان ، ملك النوبة وملك الحبشة وملك علوه وملك الرعا (١) وملك الراحات ومريس والقبط ، وكلّ هؤلاء كانوا نصارى.

قال : وكذلك من ضوى (٢) إلى الشام وحلّ بها من ملوك غسّان ولخم وجذام وقضاعة ، وغيرهم ، من ذوي يمنكم فهم لكم عشيرة وموالي وأعوان وفي الدّين اخوان ، يعني أنّهم نصارى ، وكذلك نصارى الحيرة من العبّاد وغيرهم ، فقد صبّت إلى دينهم قبائل تغلب بنت وائل وغيرهم من ربيعة بن نزار ، لتسير وفودكم.

ثم لتخرق إليهم البلاد إغذاذا (٣) ، فيستصرخونهم لدينكم فيستنجدكم (٤) الرّوم وتسير إليكم الاساودة (٥) مسير أصحاب الفيل ، وتقبل إليكم نصارى العرب من ربيعة اليمن.

فإذا وصلت الأمداد واردة ، سرتم أنتم في قبائلكم وسائر من ظاهركم وبذل نصره وموازرته لكم ، حتّى تضاهئون (٦) من انجدكم (٧) وأصرخكم ، من الأجناس ، والقبائل الواردة عليكم ، فامّوا (٨) محمّدا حتّى تنجوا به جميعا ، فسيعتق إليكم وافدا لكم من صبا (٩) إليه ، مغلوبا مقهورا ، وينعتق به من كان منهم في مدرته (١٠) مكثورا (١١) ، فيوشك ان تصطلموا (١٢) حوزته وتطفئوا جمرته.

ويكون لكم بذلك الوجه والمكان في الناس ، فلا تتمالك العرب حينئذ حتّى

__________________

(١) ملك حبشة ، ملك عليه ، ملك الرعانة ( خ ل ).

(٢) ضوى إليه : انضمّ ولجأ.

(٣) إغذاذا : سريعا.

(٤) استنجد : استعان وقوى بعد الضعف.

(٥) الاساودة : جماعة سودان.

(٦) ضاهاه : شاكله.

(٧) نجده : أعانه.

(٨) امّه : قصده.

(٩) صبا : مال.

(١٠) مدرته : بلده.

(١١) مكثورا : المغلوب بالكثرة.

(١٢) الاصطلاء : الاستئصال.

٣١٥

تتهافت دخولا في دينكم ، ثم لتعظمنّ بيعتكم هذه ، ولتشرفنّ ، حتّى تصير كالكعبة المحجوجة (١) بتهامة ، هذا الرأي فانتهزوه (٢) ، فلا رأي لكم بعده.

فأعجب القوم كلام جهير بن سراقة ، ووقع منهم كلّ موقع ، فكاد أن يتفرّقوا على العمل به ، وكان فيهم رجل من ربيعة بن نزار من بني قيس بن ثعلبة ، يدعى حارثة بن أثال على دين المسيح عليه‌السلام ، فقام حارثة على قدميه وأقبل على جهير ، وقال متمثّلا :

متى ما تقد بالباطل الحق بابه

وان قلت بالحقّ الرّواسي ينقد

إذا ما أتيت الأمر من غير بابه

ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتد

ثمّ استقبل السيد والعاقب والقسّيسين والرّهبان وكافّة نصارى نجران بوجهه لم تخلط معهم غيرهم ، فقال (٣) : سمعا سمعا يا أبناء الحكمة وبقايا حملة الحجّة ، انّ السعيد والله من نفعته الموعظة ولم يعش (٤) عن التذكرة ، ألا وانّي أنذركم وأذكّركم قول مسيح الله عزّ وجلّ ـ ثم شرح وصيّته ونصّه على وصيّه شمعون بن يوحنّا وما يحدث على أمّته من الافتراق.

ثم ذكر عيسى عليه‌السلام وقال : انّ الله جلّ جلاله أوحى إليه : فخذ يا بن أمتي كتابي بقوّة ثم فسّره لأهل سوريا بلسانهم ، وأخبرهم انّي انا الله لا إله إلاّ أنا ، الحيّ القيوم البديع الدائم الّذي لا أحول ولا أزول ، انّي بعثت رسلي ونزلت كتبي رحمة ونورا عصمة لخلقي ، ثمّ انّي باعث بذلك نجيب رسالتي ، أحمد صفوتي من برّيتي البار قليطا عبدي أرسله في خلوّ من الزمان ، ابعثه بمولده فاران من مقام أبيه إبراهيم عليه‌السلام ، انزل عليه توراة حديثة ، افتح بها أعينا عميا ، وإذنا صمّا ، وقلوبا غلفا (٥) ، طوبى لمن شهد أيّامه وسمع كلامه ، فآمن به واتّبع النّور الّذي جاء به ، فإذا ذكرت يا عيسى ذلك النّبي

__________________

(١) حجّ : قصد.

(٢) انتهزوه : اغتنموه.

(٣) يعني حارثة.

(٤) عشوت إلى النار : إذا استدللت إليها بسير ضعيف ، وإذا صدرت عنه إلى غيره قلت : عشوت عنه.

(٥) الأغلف ج غلف : الذي لا يعي شيئا.

٣١٦

فصلّ عليه فانّي وملائكتي نصلّي عليه.

قال : فما أتى حارثة بن أثال على قوله هذا حتّى أظلم بالسيّد والعاقب مكانهما ، وكرها ما قام به في الناس معربا ومخبرا عن المسيح عليه‌السلام بما أخبر وقدم من ذكر النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّهما كانا قد أصابا بمواضعهما من دينهما شرفا بنجران ووجها عند ملوك النصرانيّة جميعا ، وكذلك عند سوقتهم وعربهم في البلاد ، فأشفقا ان يكون ذلك سببا لانصراف قومهما عن طاعتهما لدينهما وفسخا لمنزلتهما في الناس.

فأقبل العاقب على حارثة فقال : أمسك عليك يا حار ، فانّ رادّ هذا الكلام عليك أكثر من قابله ، وربّ قول يكون بليّة على قائله ، وللقلوب نفرات عند الإصداع (١) بمظنون الحكمة ، فاتّق نفورها ، فلكلّ نبأ أهل ، ولكلّ خطب محلّ ، وانّما الدرك (٢) ما أخذ لك بمواضي النجاة ، وألبسك جنّة السّلامة ، فلا تعدلنّ بهما حظّا ، فانّي لم آلك لا أبا لك نصحا ثمّ ارمّ (٣).

فأوجب السيّد ان يشرك العاقب في كلامه ، فأقبل على حارثة فقال : انّي لم أزل أتعرّف لك فضلا تميل إليك الألباب ، فإيّاك أن تقعد مطيّة اللّجاج ، وان توجف إلى السراب (٤) ، فمن عذر بذلك فلست فيه أيّها المرء بمعذور ، وقد أغفلك أبو واثلة ، وهو وليّ أمرنا وسيّد حضرنا عتابا فأوله (٥) اعتبارا (٦).

ثمّ تعلم ان ناجم (٧) قريش يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون رزؤه (٨) قليلا ، ثم ينقطع ويخلو ، انّ بعد ذلك قرن يبعث في آخره النبيّ المبعوث بالحكمة والبيان والسّيف والسلطان ، يملك ملكا مؤجّلا ، تطبق فيه أمّته المشارق والمغارب ، ومن ذرّيته الأمير

__________________

(١) الصدع : الشق ، صدع بالأمر : تظلّم به جهارا.

(٢) الدرك : اللحاق والوصول.

(٣) ارمّ القوم : سكتوا.

(٤) الآل والسراب ( خ ل ) ، الآل الذي تراه أول النهار وآخره يرفع الشخوص وليس بالسراب.

(٥) اوله : أعطه.

(٦) اعتابا ( خ ل ).

(٧) ناجم قريش أي الرجل الظاهر منهم ، من نجم الشيء إذا أظهر.

(٨) الرزء : المصيبة.

٣١٧

الظاهر يظهر على جميع الملكات والأديان ، ويبلغ ملكه ما طلع عليه اللّيل والنّهار ، وذلك يا حار أمل من ورائه أمد ومن دونه أجل ، فتمسّك من دينك بما تعلم وتمنع لله أبوك من أنس متصرّم بالزمان أو لعارض من الحدثان ، فإنّما نحن ليومنا ولغد أهله.

فأجابه حارثة بن أثال فقال : ايها (١) عليك أبا قرّة ، فإنّه لا حظّ في يومه لمن لا درك له في غده ، واتّق الله تجد الله جلّ وتعالى بحيث لا مفزع إلاّ إليه ، وعرضت مشيّدا بذكر أبي واثلة ، فهو العزيز المطاع الرّحب الباع ، وإليكما معا ملقى (٢) الرّحال ، فلو أضربت التّذكرة عن أحد لتبزيز (٣) فضل لكنتماه ، لكنّها أبكارا لكلام (٤) تهدي لأربابها ، ونصيحة كنتما أحقّ من أصغى بها ، إنكما مليكا ثمرات قلوبنا ، ووليّا طاعتنا في ديننا.

فالكيّس الكيّس يا أيها المعظّمان عليكما به ، أريا مقاما بدهكما نواحيه واهجر سنة التسويف (٥) فيما أنتما بعرضه ، آثر الله فيما كان يؤثركما بالمزيد من فضله ، ولا تخلدا فيما اظلّكما إلى الونية (٦) ، فإنّه من أطال (٧) عنان الأمر أهلكته الغرّة ، ومن اقتعد مطيّة الحذر كان بسبيل أمن من المتألّف ، ومن استنصح عقله كانت العبرة له لا به ، ومن نصح لله عزّ وجلّ أنسه الله جلّ وتعالى بعزّ الحياة وسعادة المنقلب.

ثم أقبل على العاقب معاتبا فقال : وزعمت أبا واثلة إنّ رادّ ما قلت أكثر من قائله ، وأنت لعمرو الله حريّ الاّ يؤثر هذا عنك ، فقد علمت وعلمنا امّة الإنجيل معا بسيرة ما قام به المسيح عليه‌السلام في حواريه ، ومن آمن له من قومه ، وهذه منك فهّة (٨) لا يدحضها (٩) الاّ التوبة والإقرار بما سبق به الإنكار.

__________________

(١) ايها ـ بالكسر منونا وغير منون ـ يقال تسكينا لمن استزاد في كلامه يراد بذلك كفّه عن الكلام.

(٢) يلقى ( خ ل ).

(٣) بزز الرجل : فاق على أصحابه.

(٤) أبكار الكلم ، أبكارا لكلمة ( خ ل ).

(٥) ارمقاما يدهكما نواحيه واهجر التسويف ( خ ل ).

(٦) ونيت في الأمر : خففت.

(٧) أطاع ( خ ل ).

(٨) فهة : السقط.

(٩) الدحض : غسل الثوب والجسد.

٣١٨

فلمّا أتى على هذا الكلام صرف إلى السيّد وجهه فقال : لا سيف الاّ ذو نبوة ولا عليم الاّ ذو هفوة ، فمن نزع عن وهلة وأقلع فهو السعيد الرشيد ، وانّما الآفة في الإصرار ، وأعرضت (١) بذكر نبيّين يخلقان زعمت (٢) بعد ابن البتول ، فأين يذهب بك عمّا خلّد في الصحف من ذكري ذلك ، ألم تعلم ما أنبأ به المسيح عليه‌السلام في بني إسرائيل ، وقوله لهم : كيف بكم إذا ذهب بي إلى أبي وأبيكم وخلّف بعد أعصار يخلو من بعدي وبعدكم صادق وكاذب؟ قالوا : ومن هما يا مسيح الله؟ ، قال : نبيّ من ذريّة إسماعيل عليهما‌السلام صادق ومتنبّئ من بني إسرائيل كاذب ، فالصّادق منبعث منهما برحمة وملحمة ، يكون له الملك والسلطان ما دامت الدّنيا ، وامّا الكاذب ، فله نبذ يذكر به المسيح الدجال ، يملك فواقا (٣) ثم يقتله الله بيدي إذا رجع بي.

قال حارثة : واحذّركم يا قوم ان يكون من قبلكم من اليهود أسوة لكم ، انّهم انذروا بمسيحين : مسيح رحمة وهدى ومسيح ضلالة ، وجعل لهم على كلّ واحد منهما آية وأمارة ، فجحدوا مسيح الهدى وكذبوا به وآمنوا بمسيح الضّلالة الدّجال وأقبلوا على انتظاره ، واضربوا في الفتنة وركبوا نتّجها (٤) ، ومن قبل نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وقتلوا أنبياءه والقوّامين بالقسط من عباده ، فحجب الله عزّ وجلّ عنهم البصيرة بعد التّبصرة بما كسبت أيديهم ، ونزع ملكتهم منهم ببغيهم ، وألزمهم الذّلة والصغار ، وجعل منقلبهم إلى النار.

قال العاقب : فما أشعرك يا حار ان يكون هذا النّبي المذكور في الكتب هو قاطن (٥) يثرب ، ولعلّه ابن عمّك صاحب اليمامة ، فإنّه يذكر من النبوّة ما يذكر منها أخو قريش ، وكلاهما من ذريّة إسماعيل ولجميعهما اتباع وأصحاب ، يشهدون بنبوّته ويقرّون له برسالته ، فهل تجد بينهما في ذلك من فاصلة فتذكرها؟

__________________

(١) عرضته ( خ ل ).

(٢) زعمته ( خ ل ).

(٣) الفواق : ما بين الحلبتين من الوقت ، الزمن اليسير.

(٤) نتّج بمعنى نتج ، ويقال إذا تكسب من عمله.

(٥) قطن بمكان : أقام فيه.

٣١٩

قال حارثة : أجل والله أجدها ، والله أكبر وأبعد ممّا بين السحاب والتّراب ، وهي الأسباب الّتي بها وبمثلها تثبت حجّة الله في قلوب المعتبرين من عباده لرسله وأنبيائه ، وامّا صاحب اليمامة فيكفيك فيه ما أخبركم به سفرائكم وغيركم والمنتجعة (١) منكم أرضه ومن قدم من أهل اليمامة عليكم ، ألم يخبركم جميعا عن روّاد (٢) مسيلمة وسمّاعية ، ومن أوفده (٣) صاحبهم (٤) إلى أحمد بيثرب ، فعادوا إليه جميعا بما تعرّفوا هناك في بني قيلة (٥) وتبيّنوا به ، قالوا : قدم علينا أحمد يثرب وبئارنا ثماد (٦) ومياهنا ملحة ، وكنّا من قبله لا نستطيب ولا نستعذب ، فبصق في بعضها ومجّ (٧) في بعض ، فعادت عذابا محلوليّة وجاش (٨) منها ما كان ماؤها ثمادا فحار (٩) بحرا.

قالوا : وتفل محمّد في عيون رجال ذوي رمد وعلى كلوم (١٠) رجال ذوي جراح ، فبرأت لوقته عيونهم فما اشتكوها واندملت جراحاتهم فما ألموها في كثير ممّا أدوا ، ونبّئوا عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من دلالة وآية ، وأرادوا صاحبهم مسيلمة على بعض ذلك ، فأنعم لهم كارها وأقبل بهم إلى بعض بئارهم فمجّ فيها وكانت الركي معذوبة ، فصارت ملحا لا يستطاع شرابه ، وبصق في بئر كان ماؤها وشلا (١١) فعادت فلم تبضّ بقطرة من ماء ، وتفل في عين رجل كان بها رمد فعميت ، وعلى جراح ـ أو قالوا : جراح آخر ـ فاكتسى جلده برصا.

فقالوا لمسيلمة فيما أبصروا في ذلك منه واستبرءوه ، فقال : ويحكم بئس الأمّة أنتم

__________________

(١) النجعة : طلب الكلام في موضعه ، يقال : انتجعت فلانا إذا أتيته تطلب معروفا.

(٢) الروّاد : الجواسيس.

(٣) أوفده : أرسله.

(٤) أي مسيلمة.

(٥) أي الأنصار.

(٦) الثماد : الماء لا مادة له.

(٧) مجّ من فمه : رمى به.

(٨) جاش الوادي : كثر ماؤه.

(٩) حار المكان بالماء : امتلأ.

(١٠) الكلوم : الجراحات.

(١١) وشلا : قليل الماء.

٣٢٠