الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة - ج ٢

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]

الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة - ج ٢

المؤلف:

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]


المحقق: جواد القيّومي الاصفهاني
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-300-5
الصفحات: ٥١٥

ما وصفت ، وانّما علّمني جبرئيل عليه‌السلام هذه الكلمات أيام أسري بي (١).

فصل (٥)

فيما نذكره من فضل صوم ثلاثة أيّام من الشّهر الحرام

روينا ذلك بإسنادنا إلى الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان رضوان الله عليه من كتابه حدائق الرياض وزهرة المرتاض ونور المسترشد ، وعندنا الآن به نسخة عتيقة لعلّها كتبت في زمانه ، فقال ما هذا لفظه :

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من صام من شهر حرام ثلاثة أيّام : الخميس والجمعة والسّبت ، كتب الله له عبادة سنة :

ورأيت في كتاب دستور المذكورين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من صام هذه الثلاثة أيّام كتب الله تبارك وتعالى له عبادة تسعمائة سنة ، صيام نهارها وقيام ليلها.

أقول : فإن قلت : فلأيّ حال جعلت هذا الحديث في شهر ذي القعدة من دون أشهر الحرم؟ قلت : لأنّه أوّل ما اشتمل عليه كتابنا هذا منها ، فأردنا أن يغتنم الإنسان أوّل وقت الإمكان قبل حوائل الأزمان ، لأنّ الاستظهار والاحتياط للمبادرة إلى العبادات والطاعات قبل الفوات من دلائل العنايات.

على انّ إيرادنا هذا الحديث في هذا الشّهر لا يمنع ان يعمل عليه في باقي أشهر الحرم ، فانّ عموم هذا اللفظ المشار إليه يشتمل على كلّ شهر من أشهر الحرم ، فإذا عمله في كلّ شهر منها كان أفضل وأكمل فيما يعتمد عليه.

ولا تقل : كيف عدل عن صوم يوم الأربعاء في أوّلها إلى صوم يوم السبت في آخرها ، فإنّ أسرار العبادات لا يعلمها جميعها الاّ المطلع على الغائبات ، وإليه جل جلاله الاختيار فيما تعبّد به من العبادات.

ولعلّ ان احتمل ان يكون المراد بذلك ، انّه لمّا كان الصوم المذكور لهذه الأيام

__________________

(١) عنه المستدرك ٦ : ٣٩٦.

٢١

الثّلاثة في هذه الأشهر المباركات ، فأراد الله تعالى ان يكون افتتاح صوم هذه الأيّام مباركا ، وهو الخميس ، وختمها بيوم مبارك ، وهو السبت ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : بورك لأمّتي في سبتها وخميسها ، تعظيما لهذا الصوم حيث وقع في الأشهر الحرم المعظّمة المباركة المكرّمة.

أو لعلّه يحتمل ان يكون يوم الأحد من هذا الشهر معظّما كما قدّمناه ، وهو يوم ابتداء خلق الدنيا ، فيراد ان يكون مع يوم الفراغ من خلقها وتمامها ، وهو يوم السبت ، معظّما ، وشكرا لله في ابتدائها وفراغها.

فصل (٦)

فيما نذكره من فضل ليلة النّصف من ذي القعدة والعمل فيها

اعلم رحمك الله انّ كل وقت اختاره الله جل جلاله لدعوة عبادة إلى حبّه وقربه وإسعاده وإنجاده وإرفاده ، فانّ ذلك من أوقات إقبال العبد وأعياده ، حيث ارتضاه الله جل جلاله للوفود بشريف بابه ، وشرّفه بما لم يكن في حسابه.

ونحن ذاكرون في هذا الفصل ما لم نذكره ممّا يتكرّر في السّنة مرّة واحدة ، كما يفتحه الله جلّ جلاله علينا من الفائدة ، ووجدناه ممّا تخيّرناه في ذلك وأردناه ما رأيناه في كتاب أدب الوزراء تأليف أحمد بن جعفر بن شاذان في باب شهور العرب :

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انّ في ذي القعدة ليلة مباركة ، وهي ليلة خمس عشرة ، ينظر الله إلى عباده المؤمنين فيها بالرحمة ، أجر العامل فيها بطاعة الله أجر مائة سائح لم يعص الله طرفة عين ، فإذا كان نصف اللّيل فخذ في العمل بطاعة الله والصّلاة وطلب الحوائج ، فقد روي انّه لا يبقى أحد سأل الله فيها حاجة الاّ أعطاه.

أقول : فاغتنم نداء الله جلّ جلاله لك إلى مجلس سعادتك وتشريفك بمجالستك ومشافهتك ومحلّ قضاء حاجتك ، وأفكّر لو كانت هذه المناداة من سلطان زمانك كيف تكون نشيطا إلى الحضور بين يديه بغاية إمكانك ، ولا يكن الله جلّ جلاله عندك دون هذه الحال ، والّذي قد عرضه الله جلّ جلاله عليك هو للدّنيا ولدار الدوام

٢٢

والإقبال ، والّذي يدعوك إليه سلطان بلدك مكدّر بالمنّة والذلة ، ويئول إلى الفناء والزوال.

فصل (٧)

فيما يتعلّق بدحو الأرض وإنشاء أصل البلاد وابتداء مساكن العباد

اعلم انّ هذه الرحمة من سلطان الدنيا والمعاد يعجز عن شرح فضلها بالقلم والمداد ، وها نحن نذكر ما نختاره (١) من الرواية بذلك ، ثم نذكر ما يحضرنا في فضل ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة وشرف محلّها.

فصل (٨)

فيما نذكره ممّا يعمل يوم خمس وعشرين من ذي القعدة

روينا ذلك بإسنادنا إلى الشيخ محمد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله بإسناده في كتاب الكافي إلى محمد بن عبد الله الصّيقل قال :

خرج علينا أبو الحسن ـ يعني الرضا ـ عليه‌السلام بمرو في يوم خمس وعشرين من ذي القعدة ، فقال : صوموا فإني أصبحت صائما ، قلنا : جعلت فداك أيّ يوم هو؟ قال : يوم نشرت فيه الرحمة ودحيت فيه الأرض ونصبت فيه الكعبة وهبط فيه آدم عليه‌السلام (٢).

فصل (٩)

فيما نذكره من رواية أخرى بتعيين وقت نزول الكعبة من السّماء

روينا ذلك بإسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن بابويه رحمه‌الله بإسناده من

__________________

(١) يوجد هنا في بعض النسخ هذه الزيادة : ورأيت في بعض تصانيف أصحابنا العجم رضوان الله عليهم انه يستحبّ ان يزار مولانا الرضا عليه‌السلام يوم ثالث وعشرين من ذي القعدة من قرب أو بعد ببعض زياراته المعروفة أو بما يكون كالزيارة.

(٢) رواه الكليني في الكافي ٤ : ١٤٩ ، والشيخ في التهذيب ٤ : ٣٠٤ ، عنهما الوسائل ١٠ : ٤٥٠.

٢٣

كتاب من لا يحضره الفقيه ، وقد ضمن في خطبة كتابه صحّة ما يرويه فيه وانّه رواه من الأصول المنقولة عن الأئمة صلوات الله عليهم ، فقال ما هذا لفظه :

وروي ان في تسع وعشرين من ذي القعدة أنزل الله عز وجل الكعبة ، وهي أوّل رحمة نزلت ، فمن صام ذلك اليوم كان كفّارة سبعين سنة (١).

فصل (١٠)

فيما نذكره من زيادة رواية في فضل يوم دحو الأرض

روينا ذلك بإسنادنا إلى أبي جعفر محمد بن بابويه من كتاب من لا يحضره الفقيه ، ومن كتاب ثواب الأعمال فقال :

روى الحسن بن الوشاء قال : كنت مع أبي وانا غلام ، فتعشّينا عند الرضا عليه‌السلام ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة ، فقال له : ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة ولد فيه إبراهيم عليه‌السلام ، وولد فيها عيسى بن مريم ، وفيها دحيت الأرض من تحت الكعبة ، فمن صام ذلك اليوم كان كمن صام ستّين شهرا (٢).

وفي روايته من كتاب ثواب الأعمال الّذي نسخته عندنا الآن : انّ فيه يقوم القائم عليه‌السلام (٣).

فصل (١١)

فيما نذكره من التنبيه على فضل الله جل جلاله بدحو الأرض وبسطها لعباده ، والإشارة إلى بعض معاني إرفاده بذلك وإسعاده

اعلم انّ كلّ حيوان فإنّه مضطرّ إلى مسكن يسكن فيه ويتحصّن به ممّا يؤذيه ، فمن أعظم المنن الجسام إنشاء الأرض للأنام ، ومن أسرار ما في ذلك من الأنام ، انّ الله جلّ

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٩٠ ، عنه الوسائل ١٠ : ٤٥٢ ، أورده الصدوق في المقنع : ٦٥ ، عنه المستدرك ٧ : ٥٢٠.

(٢) الفقيه ٢ : ٨٩ ، ثواب الأعمال : ١٠٤ ، عنهما الوسائل ١٠ : ٤٤٩.

(٣) لا يوجد هذه الزيادة في ثواب الأعمال المطبوع.

٢٤

جلاله لم يجعل بناء الأرض وتدبير إنشائها إلى ملائكته ولا غيرهم من خاصّته ، وتولاّها بيد قدرته ورحمته ، وملأها من كنوز حلمه وعفوه ورأفته.

فاذكر أيّها الإنسان المتشرّف بنور الألباب ، المعترف بالإقرار بربّ الأرباب ، انّه لو كنت في دار الفناء فقيرا يتعذّر عليك تحصيل مسكن للبقاء ، يتحصّن فيه من حرّ الصّيف وبرد الشّتاء وما معك ثمن ولا أجرة العمارة للبناء.

فرحمك سلطان ذلك الزّمان ، وبني لك مسكنا بيده وملأه ممّا يحتاج إليه من الإحسان ، وما أتعب لك فيه قلبا ولا جسدا ولا قدما ولا يدا ولا أهلا ولا ولدا ، بل عمّره ، وأنت ما عرفت ذلك السّلطان ولا خدمته ، ثمّ دعاك لتسكن فيما عمّره بيده لك ، فسكنته ووجدته قد ملأه من ذخائر العناية بك.

فكيف كان يكون محبّتك لذلك السّلطان العظيم ، ومراقبتك لحقّه الجسيم ، واعترافك بإحسانه العميم ، فليكن الله جلّ جلاله عندك على أقلّ المراتب ، مثل ذلك السّلطان المملوك لربّك جلّ جلاله ، الّذي هو أصل المواهب.

أقول : وليكن كلّ يوم يأتي فيه وقت إنشاء المسكن الجديد كيوم العيد ، معترفا لمولاك المجيد بحقّه الشّامل للعبيد ، وكن مشغولا رحمك الله ذلك اليوم وغيره بالشكر له جل جلاله والتحميد والتمجيد.

وإيّاك وان يمرّ عليك مثل هذا اليوم وأنت متهاون بقدره ومتغافل عن مولاك وعظيم شأنه ومتثاقل عن واجب شكره ، فسقط من عين عنايته وتهون ، وتدخل تحت ذلّ ذمّه جل جلاله لك في قوله : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) (١).

وتذكر رحمك الله انّك لو احتجت إلى فراش في دارك وبساط تجلس عليه لمسارّك ، ففرش لك ذلك الفراش وذلك البساط بيدك ، كيف تكون في المراقبة والمحبّة والخدمة له بنفسك ومالك ولسانك وأهلك وولدك ، فلا يكن الله جلّ جلاله عندك دون هذه الحال ، وقد بسط لك الأرض فراشا وجعل لك فيها معاشا.

__________________

(١) يوسف : ١٠٥.

٢٥

وتذكر رحمك الله جلّ جلاله منّته عليك وإحسانه إليك ، كيف انزل الكعبة الشّريفة ، وجعلها بابا إليه ، ومحلاّ لفتح أبواب عفوه ورحمته عند الجرأة عليه ، واسترضاك ، وأنت ملطّخ بأنجاس الذّنوب وأدناس العيوب ان تزوره إليها ، وان تكون قبلة لك إذا أردت التوجّه إليه توجّهت إليها.

وارحم ضعف قلبك وكبدك ، ورقّة نفسك وجسدك ، فلا تعرّضها لخطر ان يكون مولاك ومالك دنياك وأخراك مقبلا عليك يدعوك إليه ، وأنت معرض عنه متمرّد عليه.

ويحك من أين يأتيك وجودك إذا ضيّعته ، ومن أين يأتيك بقاؤك إذا أهملته ومن أين يأتيك حياتك إذا أعرضت عنه ، ومن أين يأتيك عافيتك إذا هربت منه ، ومن يحميك من بأسه الشّديد ، ومن يدفع عنك غضبه إذا غضب من قريب أو بعيد ، ومن ترجوه لنوائبك ومصائبك وأسقامك وبلوغ مرامك إذا خرجت من حماه وهجرته وآثرت عليه ما لا بقاء له لولاه.

عد ويحك إلى الطواف حول كعبة كرمه ، وطف بالذلّ على أبواب حلمه ورحمته وسالف نعمه ، وأجر على الخدود دموع الخشوع ، وجد بماء الجفون قبل نفاد ماء الدّموع ، وابك على قدرك لحبّه وقربه ، واندب على ما فرّطت فيه ندب العارف بعظيم ذنبه ، العاجز عن تفريج كربه ، فإنّك تجده جلّ جلاله بك رحيما ، وعنك حليما ، وعليك عطوفا ، وباحتمال سفهك رءوفا.

فلمن تدخر الذلّ أحقّ به منه ، ولمن تصون الدّمع إذا حبسته عنه ، واذكرني بالله عند تلك السّاعة فيما تناجيه جلّ جلاله من الدّعاء والضراعة.

فصل (١٢)

فيما نذكره من فضل زائد لليلة يوم دحو الأرض ويومها

وهو نقلناه من خطّ علي بن يحيى الخيّاط ، وقد ذكرنا انّه من جملة من رويناه عنه بإسناد ذكره عن عبد الرحمن السلمي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله

٢٦

عليه يقول :

انّ أوّل رحمة نزلت من السّماء إلى الأرض في خمس وعشرين من ذي القعدة ، فمن صام ذلك اليوم وقام تلك اللّيلة فله عبادة مائة سنة ، صام نهارها وقام ليلها ، وأيّما جماعة اجتمعت ذلك اليوم في ذكر ربّهم عزّ وجلّ لم يتفرّقوا حتّى يعطوا سؤلهم ، وينزّل في ذلك اليوم ألف ألف رحمة يضع منها تسعة وتسعين في حلق الذّاكرين ، والصائمين في ذلك اليوم ، والقائمين في تلك الليلة (١).

قال : وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في خلال حديث ـ : وانزل الله الرحمة لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، فمن صام ذلك اليوم كان له كصوم سبعين سنة (٢).

قال : وفي رواية : في خمس وعشرين ليلة من ذي القعدة أنزلت الرحمة من السماء ، وانزل تعظيم الكعبة على آدم عليه‌السلام ، فمن صام ذلك اليوم استغفر له كل شيء بين السماء والأرض (٣).

فصل (١٣)

فيما نذكره من الدعاء في يوم خمس وعشرين من ذي القعدة

رويناه بطرق متعدّدة ، منها عن جدّي أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي فيما ذكره في المصباح الكبير ، فقال قدس الله جل جلاله روحه ونوّر ضريحه ما هذا لفظه :

ذو القعدة ، يوم الخامس والعشرين منه دحيت الأرض من تحت الكعبة ، ويستحب صوم هذا اليوم ، وروي انّ صومه يعدل صوم ستّين شهرا ، ويستحبّ ان يدعى في هذا اليوم بهذا الدّعاء :

__________________

(١) عنه صدره الوسائل ١٠ : ٤٥١.

(٢) عنه الوسائل ١٠ : ٤٥١.

(٣) عنه الوسائل ١٠ : ٤٥١.

٢٧

اللهُمَّ داحِيَ الْكَعْبَةِ وَفالِقَ الْحَبَّةِ وَصارِفَ اللَّزِبَةِ (١) وَكاشِفَ الْكُرْبَةِ ، اسْأَلُكَ فِي هذا الْيَوْمِ ، مِنْ أَيّامِكَ الَّتِي اعْظَمْتَ حَقَّها ، وَقَدَّمْتَ سَبْقَها ، وَجَعَلْتَها عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَدِيعَةً ، وَالَيْكَ ذَرِيعَةً ، وَبِرَحْمَتِكَ الْوَسِيعَةِ انْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ ، الْمُنْتَجَبِ فِي الْمِيثاقِ ، الْقَرِيبِ يَوْمَ التَّلاقِ ، فاتِقِ كُلِّ رَتْقٍ ، وَداعٍ الى كُلِّ حَقٍّ ، وَعَلى اهْلِ بَيْتِهِ الأَطْهارِ الْهُداةِ الْمَنارِ ، دَعائِمِ الْجَبَّارِ ، وَوُلاةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.

وَأَعْطِنا فِي يَوْمِنا هذا مِنْ عَطائِكَ الْمَخْزُونِ ، غَيْرِ مَقْطُوعٍ وَلا مَمْنُونٍ ، تَجْمَعْ لَنا التَّوْبَةَ وَحُسْنَ الاوْبَةِ ، يا خَيْرَ مَدْعُوٍّ وَاكْرَمَ مَرْجُوٍّ ، يا كَفِيُّ يا وَفِيُّ ، يا مَنْ لُطْفُهُ خَفِيٌّ ، الْطُفْ لِي بِلُطْفِكَ ، وَاسْعِدْنِي بِعَفْوِكَ ، وَايِّدْنِي بِنَصْرِكَ ، وَلا تُنْسِنِي كَرِيمَ ذِكْرِكَ ، بِوُلاةِ امْرِكَ وَحَفَظَةِ سِرِّكَ ، وَاحْفَظْنِي مِنْ شَوائِبِ الدَّهْرِ الى يَوْمِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ، وَاشْهِدْنِي أَوْلِيائَكَ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِي وَحُلُولِ رَمْسِي (٢) وَانْقِطاعِ عَمَلِي وَانْقِضاءِ اجَلِي.

اللهُمَّ وَاذْكُرْنِي عَلى طُولِ الْبِلى إِذا حَلَلْتُ بَيْنَ أَطْباقِ الثَّرى ، وَنَسِيَنِي النَّاسُونَ مِنَ الْوَرى ، وَاحْلِلْنِي دارَ الْمُقامَةِ ، وَبَوِّئْنِي مَنْزِلَ الْكَرامَةِ ، وَاجْعَلْنِي مِنْ مُرافِقِي أَوْلِيائِكَ وَاهْلِ اجْتِبائِكَ وَأَصْفِيائِكَ ، وَبارِكْ لِي فِي لِقائِكَ ، وَارْزُقْنِي حُسْنَ الْعَمَلِ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِّ ، بَرِيئاً مِنَ الزَّلَلِ وَسُوءِ الْخَطَلِ.

اللهُمَّ وَاوْرِدْنِي حَوْضَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاهْلِ بَيْتِهِ ، وَاسْقِنِي مَشْرَباً رَوِيّاً سائِغاً هَنِيئاً لا اظْمَأُ بَعْدَهُ وَلا أُحَلَّأُ وِرْدَهُ وَلا عَنْهُ أُذادُ (٣) ، وَاجْعَلْهُ لِي خَيْرَ زادٍ وَأَوْفى مِيعادٍ يَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ.

اللهُمَّ وَالْعَنْ جَبابِرَةَ الأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِحُقُوقِ أَوْلِيائِكَ الْمُسْتَأْثِرِينَ.

اللهُمَّ وَاقْصِمْ دَعائِمَهُمْ ، وَاهْلِكْ أَشْياعَهُمْ وَعامِلَهُمْ ، وَعَجِّلْ مَهالِكَهُمْ ،

__________________

(١) اللزبة : الشدة ، القحط.

(٢) الرمس : القبر.

(٣) ذاده : منعه.

٢٨

وَاسْلُبْهُمْ مَمالِكَهُمْ ، وَضَيِّقْ عَلَيْهِمْ مَسالِكَهُمْ ، وَالْعَنْ مُساهِمَهُمْ وَمَشارِكَهُمْ.

اللهُمَّ وَعَجِّلْ فَرَجَ أَوْلِيائِكَ ، وَارْدُدْ عَلَيْهِمْ مَظالِمَهُمْ ، وَاظْهِرْ بِالْحَقِّ قائِمَهُمْ ، وَاجْعَلْهُ لِدِينِكَ مُنْتَصِراً ، وَبِأَمْرِكَ فِي أَعْدائِكَ مُؤْتَمِراً ، اللهُمَّ احْفُفْهُ (١) بِمَلائِكَةِ النَّصْرِ وَبِما الْقَيْتَ إِلَيْهِ مِنَ الامْرِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مُنْتَقِماً لَكَ حَتّى تَرْضَى ، وَيَعُودَ دِينُكَ بِهِ وَعَلى يَدَيْهِ جَدِيداً غَضّاً ، وَيُمَحِّصَ الْحَقَّ مَحْصاً ، وَيَرْفَضَ الْباطِلَ رَفْضاً.

اللهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ وَعَلى جَمِيعِ آبائِهِ ، وَاجْعَلْنا مِنْ صَحْبِهِ وَاسْرَتِهِ ، وَابْعَثْنا فِي كَرَّتِهِ حَتّى نَكُونَ فِي زَمانِهِ مِنْ أَعْوانِهِ ، اللهُمَّ ادْرِكْ بِنا قِيامَهُ ، وَاشْهِدْنا أَيَّامَهُ ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ السَّلامُ ، وَارْدُدْ إِلَيْنا سَلامَهُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ (٢).

هذا آخر الدعاء وادع أنت بما يجريه الله على خاطرك قبل انقضاء دار الفناء.

فصل (١٤)

فيما نذكره ممّا ينبغي ان يكون المكلّف عليه في اليوم المشار إليه

اعلم ان من مهمّات أهل السّعادات عند تجديد النعم الباهرات ، ان يكونوا مشغولين بالشّكر لواهب تلك العنايات ، وخاصّة ان كان العبد ما هو في حالاته موافقا لمولاه في إرادته وكراهاته ، بل يكره سيّده شيئا فيخالفه في كراهته ويحبّ سيده شيئا فيخالفه في محبّته ، ويعامل أصدقائه ومعارفه بالصّفاء والوفاء أكثر ممّا يعامل بذلك مالك الأشياء ، ومن بيده تدبير دار الفناء ودار البقاء وإليه ورود ركائب الآمال والرجاء.

فليكن متعجّبا كيف علم الله جلّ جلاله انّ هذا العبد يكون إذا خلقه على هذه الصفات من المخالفات له والمعارضات ، ومع ذلك فبنا له المساكن ، وخلق له فيها ما يحتاج إليه إلى الممات ولم يؤاخذه ولم يعاجله بالجنايات ، وعامله معاملة أهل الطاعات.

__________________

(١) حفّة : احدقوا واستداروا به.

(٢) مصباح المتهجّد : ٦٦٩.

٢٩

ويحسن ان يكون على الإنسان ان كان مطيعا لربّه أثر ما وهبه من المسكن وأعطاه فيه من الإحسان ، كما لو اشترى دارا يحتاج إليه ، أو وهبه سلطان مساكن كان مضطرّا إليها ، أو كما لو بني هو دارا بالتّعب والعناء ومقاساة الذرجارية (١) والبنّاء ، أو يكون مسرورا على أقلّ الصّفات ، كما لو حصل له دار عارية أو بإجارة هو محتاج إليها في تلك الأوقات.

فاما ان خلّى قلبه بالكليّة من معرفة هذه النعم الإلهيّة ، فكأنّه كالميّت الّذي لا يحسن بما فيه ، أو كالأعمى الّذي لا ينظر إلى المواهب الّتي فضله ممّن يراعيه ، أو كالأصمّ الّذي لا يسمع من يناديه ، وليبك على فقدان فوائد قلبه وعقله ويتوب.

فصل (١٥)

فيما نذكره ممّا يختم به ذلك اليوم

اعلم انّ كلّ يوم سعيد وفصل جديد ينبغي ان يكون خاتمته على العبيد ، كما لو بسط ملك لعباده بساط ضيافة يليق بإرفاده وقدم إليهم موائد إسعاده ، ثمّ جلسوا على فراش إكرامه ، فأكلوا ما احتاجوا إليه من طعامه ، وقاموا عن البساط ليطوي إلى سنة أخرى.

فلا يليق بعبد يعرف قدر تلك النّعمة الكبرى الاّ ان يراه سلطانه لانعامه شاكرا ولإكرامه ذاكرا ، ولفضائل مقامه ناشرا ، على أفضل العبوديّة للجلالة الإلهيّة ، ويجعل آخر ذلك النهار كلّ الملاطفة للمطّلع على الأسرار ، أن يقبل منه ما عمله ، ويبلغه من مراحمه ومكارم أمله ، ويطيع في طاعته أجله.

فإنه يوشك إذا اجتهد العبد في لزوم الأدب لكلّ يوم سعيد ان يؤهّله الله تعالى للمزيد : ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ. ) (٢)

__________________

(١) الذرجارية ( خ ل ) ، والمراد به العمالة.

(٢) إبراهيم : ٧.

٣٠

الباب الثالث

فيما يختصّ بفوائد من شهر ذي الحجّة وموائد للسالكين صوب المحجّة

وفيه فصول :

فصل (١)

فيما نذكره من الاهتمام بمشاهدة هلاله ، وما ننشئه من دعاء ذلك وابتهاله

لانّ فيه الفضل الذي يختصّ بالعشر الأوّل منه ، وما يختصّ بالحجّ الّذي لا ينبغي الغفول عنه ، وما يختصّ بيوم الغدير ، وما يختصّ بيوم المباهلة العظيم الكبير ، وما سوف نشرحه في أوقاته ، فتنظّر هلاله من لوازم العارف ومهمّاته ، ولم أجد له دعاء يختصّ بالنظر إليه ، فأنشأنا لذلك ما دلّنا الله عزّ وجلّ جلاله عليه ، فنقول :

اللهُمَّ انَّ هذا هِلالٌ عَظَّمْتَ شَهْرَهُ ، وَشَرَّفْتَ قَدْرَهُ ، وَاعْلَنْتَ ذِكْرَهُ ، وَاعْلَيْتَ امْرَهُ ، وَمَدَحْتَ عَشْرَهُ ، وَجَعَلْتَ فِيهِ تَأْدِيَةَ الْمَناسِكِ ، وَسَعادَةَ الْعابِدِ وَالنّاسِكِ.

وَكَمَّلْتَ فِيهِ كَشْفَ الْوِلايَةِ الْمُهِمَّةِ عَلَى الأُمَّةِ وَزَوالَ الْغُمَّةِ ، بِما جَرى فِي الْغَدِيرِ ثامِنَ عَشْرِهِ ، وَإِظْهارِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ لِسِرِّهِ حَتّى صارَ لِلدِّينِ كَمالاً وَتَماماً ، وَلِلِاسْلامِ عَقْداً وَعَهْداً وَنِظاماً ، فَقُلْتَ جَلَّ جَلالُكَ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (١).

__________________

(١) المائدة : ٣.

٣١

وَخَصَصْتَ هذَا الشَّهْرَ بِيَوْمِ الْمُباهِلَةِ ، الَّذِي اظْهَرْتَ حُجَّةَ الإِيمانِ عَلَى الْكُفْرِ إِظْهاراً مُبِيناً ، وَوَهَبْتَ لِلَّذِينَ باهَلْتَ بِهِمْ مَقاماً مَكِيناً.

وَاوْدَعْتَ فِي هذا الشَّهْرِ مِنَ الأَسْرارِ وَالْمَبارِّ ما يَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِهِ بِصَحِيحِ الأَخْبارِ وَصَرِيحِ الاعْتِبارِ ، وَجَعَلْتَهُ تَسْلِيَةً عَمّا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ شَهْرِ الامْتِحانِ ، فَبَدَأْتَ بالإِحْسانِ وَالامْتِنانِ قَبْلَ التَّشْرِيفِ بِالرِّضا بِالْبَلْوى الزَّائِدَةِ فِي جِهادِ اهْلِ الْعُدْوانِ.

اللهُمَّ فَكَما عَرَّفْتَنا بِشَرَفِ هذِهِ الْعَوائِدِ وَدَعَوْتَنا الَى الضِّيافَةِ الى مُقَدَّسِ تِلْكَ الْمَوائِدِ ، فَطَهِّرْنا تَطْهِيراً نَصْلَحُ بِهِ لِمُوافَقَةِ اهْلِ الطَّهارَةِ وَمُرافَقَةِ فَضْلِ الْبِشارَةِ.

وَهَبْ لَنا فِيهِ ما يَعْجُزُ مِنْهُ مَنْطِقُ اهْلِ الْعِبارَةِ ، وَلِيَكُونَ فَوائِدُ رَحْمَتِكَ وَمَوائِدُ ضِيافَتِكَ صافِيَةً مِنَ الأَكْدارِ ، وَمَصُونَةً عَنْ خَطَرِ الْآصارِ (١) ، وَمُناسِبَةً لِابْتِدائِكَ بِالنَّوالِ (٢) قَبْلَ السُّؤَالِ.

وَابْدَأْ فِي ذلِكَ بِمَنْ يَسْتَفْتِحُ بِالْبِدايَةِ أَبْوابَ الْفَلاحِ وَالنَّجاحِ ، وَاشْرِكْ مَعَنا مَنْ يُعِيننا امْرُهُ ، وَاجْمَعْ قُلُوبَنا عَلَى الصَّلاحِ ، بِرَحْمَتِكَ يا ارْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

فصل (٢)

فيما نذكره في كيفية الدّخول في شهر ذي الحجّة

قد ذكرنا ونذكر من جلالة هذا الشّهر وإقباله وقبوله ما ينبّه على تعظيم دخوله ، وقد قدّمنا في شهر رجب وشوّال وذي القعدة ما هو كالذّخيرة والعدّة ، ونزيد هاهنا بأن نقول :

انّك تدخل في هذا الشهر إلى موائد قوم أطهار وفوائد ديوان مطّلع على الأسرار ، فتطهّر من دنس المعاتبات ونجس المعاقبات ، وتفقّد جوارحك من الأقذار قبل التهجّم

__________________

(١) الآصار جمع الإصر ، بمعنى الذنب والعقوبة ، وكلاهما يناسب المقام.

(٢) النّوال : العطاء.

٣٢

على مساجد الأبرار ، واغسل ما عساك تجده من وسخ في قلبك وحجاب دينك المفرّق بينك وبين ربّك.

فإذا تطهّرت الجوارح من القبائح وخلعت ثياب الفضائح فالبس ثوبا من العمل الصالح مناسبا لثياب من تدخل إليهم وتحضر بين يديهم ، وقدّم قدم السّكينة والوقار ومدّ يد المسألة والاعتبار ، وقف موقف الذلّة والانكسار ، واجلس مجلس السّلامة من الاعتذار ، وكن وقفا مؤبّدا على مرادهم ، وقد ظفرت بما لم يبلغه أملك من إسعادهم وإنجادهم وارفادهم.

واذكرني في ذلك المقام الشريف ، الاّ انّما ضيف الكرام يضيف ، عرّض بذكري عندهم عسا هم ان سمعوك سائلوك عنّي.

فصل (٣)

فيما نذكره من فضل العشر الأوّل من ذي الحجّة على سبيل الإجمال

اعلم انّ تعيين الله جلّ جلاله على أوقات معيّنات تذكر فيها جلّ جلاله ، دون ما لا يجري مجراها من الأوقات ، يقتضي ذلك تعظيمها ومصاحبتها بذكره الشّريف بالعقول والقلوب ، وان لا يخلّيها العبد من أذكار نفسه بأنّها حاضرة بين يدي علاّم الغيوب.

وان يلزمها المراقبة التّامّة في حركاته وسكناته ، ويطهّرها من دنس غفلاته ، حيث قد اختارها الله جلّ جلاله لذكره ، وجعلها محلاّ لخزانة سرّه ، وأهلا لتشريفها بتعظيم قدره ، ومنزلا لإطلاق برّه ، ومنهلا (١) للتلذّذ بكأسات شكره.

وهذا عشر ذي الحجّة من جملة تلك الأوقات ، قال الله جلّ جلاله : ( وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ) (٢).

فرويت بإسنادي إلى جدّي أبي جعفر الطوسي فيما ذكره في المصباح الكبير وغيره

__________________

(١) المنهل : المورد ، المشرب ، موضع الشرب.

(٢) الحج : ٢٨ ، وفيه : « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ».

٣٣

من الروايات عن الصادق صلوات الله عليه : « انّ الأيّام المعلومات عشر ذي الحجة. » (١).

أقول : وينبغي ان يكون مع أذكار عقلك وقلبك ونفسك باطّلاع الله جلّ جلاله عليك في هذا شهر ذي الحجّة ، الّذي أنعم الله جلّ جلاله به عليك ، وجعله رسولا يهدي ما فيه من الفضائل إليك ، على صفات من يتلقّى نعمته جل جلاله بالتعظيم والثناء الجسيم ، ويتلقّى رسوله بالتكريم ، والإقبال على شكر ما أهداه إليك من الفضل العظيم.

وأشغل جميع جوارحك بما يختصّ كلّ منها من العبادات ، حتى تكون ذاكرا لله جل جلاله في ذلك العشر فعلا وقولا في جميع التصرّفات.

فاحسب انّ هذا العشر قد جعله سلطان زمانك وواهب إحسانك وقتا للدّخول إليه والثّناء عليه بين يديه ، أفما كنت تجتهد في تحصيل الألفاظ الفائقة والمعاني الرّائقة الجامعة لأوصاف شكره ونشر برّه ، وتجمع خواطرك كلّها في حضرته على الإخلاص في مراقبته ، ولا تقدر ان تغفل في تلك الحال عنه ، وهو يراك وأنت قريب منه.

فان الله جل جلاله أحق بهذا الإقبال عليه والأدب بين يديه وأرجح مطلبا ومكسبا بالتقرّب إليه ، فأين تأخذ عنه يمينا وشمالا ، وتذهب منه تهوينا وضلالا ، لا تغفل فإنّك في قبضته وأنت ميّت وابن أموات ، صنائع نعمته وبقايا رحمته.

فصل (٤)

فيما نذكره من زيادة فضل لعشر ذي الحجة على بعض التفصيل

وجدنا ذلك في كتاب عمل ذي الحجّة تأليف أبي علي الحسن بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن أشناس البزاز من نسخة عتيقة بخطّه ، تاريخها سنة سبع وثلاثين وأربعمائة ، وهو من مصنّفي أصحابنا رحمهم‌الله ، بإسناده إلى رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) المصباح المتهجد : ٦٧١.

٣٤

وآله انّه قال :

ما من أيّام العمل الصالح فيها أحبّ إلى الله عزّ وجل من أيّام العشر ـ يعني عشر ذي الحجّة ـ ، قالوا : يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولا الجهاد في سبيل الله الاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء.

ومن ذلك بإسناد ابن أشناس البزّاز رحمه‌الله عن النبي صلوات الله عليه وآله قال : ما من أيّام أزكى عند الله تعالى ولا أعظم أجرا من خير في عشر الأضحى ، قيل : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولا الجهاد في سبيل الله الاّ رجل خرج بماله ونفسه ثم لم يرجع من ذلك بشيء.

وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا حتّى ما يكاد يقدر عليه.

فصل (٥)

فيما نذكره من فضل صلاة تصلّي كلّ ليلة من عشر ذي الحجّة

ذكرها ابن أشناس في كتابه ، فقال : قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن المغيرة الثلاج : سمعت طاهر بن العباس يقول : سمعت محمد بن الفضل الكوفي يقول : سمعت الحسن بن علي الجعفري يحدّث عن أبيه ، عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، قال : قال لي أبي محمد بن علي عليهما‌السلام :

يا بنيّ لا تتركنّ ان تصلّي كلّ ليلة بين المغرب والعشاء الآخرة من ليالي عشر ذي الحجّة ركعتين ، تقرء في كلّ ركعة فاتحة الكتاب و ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) مرة واحدة ، وهذه الآية :

( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١).

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

٣٥

فإذا فعلت ذلك شاركت الحاجّ في ثوابهم وان لم تحجّ (١).

فصل (٦)

فيما نذكره من فضل أول يوم من ذي الحجّة

رويت بعدّة أسانيد إلى الأئمة عليهم‌السلام انّ أوّل يوم من عشر ذي الحجّة مولد إبراهيم الخليل عليه‌السلام (٢) ، وهو الذي اختاره جدّي أبو جعفر الطوسي في مصباحه (٣) ، مع انّني رويت ان مولده عليه‌السلام كان في غير ذلك الوقت (٤).

ورويت بعدّة أسانيد أيضا إلى أبي جعفر بن بابويه من كتاب من لا يحضره الفقيه ، وإلى جدّي أبي جعفر الطوسي ، بإسنادهما إلى مولانا موسى بن جعفر عليهما‌السلام انّه قال : من صام أوّل يوم من ذي الحجّة كتب الله له صوم ثمانين شهرا (٥).

وزاد جدي أبو جعفر الطوسي في روايته كما حكيناه عنه وقال : وهو اليوم الذي ولد فيه إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام ، وفيه اتّخذ الله إبراهيم خليلا (٦).

وقال رحمه‌الله : في أوّل يوم منه بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سورة براءة حين أنزلت عليه مع أبي بكر ثمّ نزل على النبي عليه انّه لا يؤدّيها عنك إلاّ أنت أو رجل منك ، فأنفذ النبي عليه‌السلام عليّا عليه‌السلام حتّى لحق أبا بكر ، فأخذها منه وردّه بالرّوحاء (٧) يوم الثالث منه ، ثم أدّاها عنه إلى الناس يوم عرفة ويوم النّحر ، قرأها عليهم في الموسم (٨).

__________________

(١) عنه الوسائل ٨ : ١٨٣.

(٢) الفقيه ٢ : ٨٧.

(٣) مصباح المتهجد : ٦٧١.

(٤) الفقيه ٢ : ٨٩ ، وقد مرّ في الرواية الرضوي إن مولده ليلة خمسة وعشرين من ذي القعدة.

(٥) الفقيه ٢ : ٨٧.

(٦) مصباح المتهجد : ٦٧١.

(٧) الروحاء : من الفرع على نحو أربعين ميلا من المدينة ، وهو الموضع الذي نزل به تبع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكة ، فأقام بها وأراح ، فسمّاها الروحاء.

(٨) المصباح : ٦٧١ ، عنه البحار ٣٥ : ٢٨٦.

٣٦

يقول السيد الامام العالم العامل الفقيه العلاّمة الفاضل ، رضي الدين ركن الإسلام ، أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد الطاوس قدّس الله روحه ونوّر ضريحه :

وحيث قد ذكرنا آيات براءة ، فينبغي ان نذكر بعض ما رويناه من شرح الحال :

فمن ذلك ما رواه حسن بن أشناس رحمه‌الله ، قال : حدثنا ابن أبي الثلج الكاتب ، قال : حدثنا جعفر بن محمد العلوي ، قال : حدثنا علي بن عبدل الصوفي ، قال : حدثنا طريف مولى محمد بن إسماعيل بن موسى وعبيد الله (١) بن يسار ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث الهمداني ، وعن جابر ، عن أبي جعفر ، عن محمد بن الحنفيّة ، عن علي عليه‌السلام : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا فتح مكّة أحبّ ان يعذر إليهم وان يدعوهم الى الله عزّ وجل أخيرا كما دعاهم أوّلا ، فكتب إليهم كتابا يحذّرهم بأسه وينذرهم عذاب ربّه ، ويعدهم الصفح ويمنّيهم مغفرة ربّهم ، ونسخ لهم أوّل سورة براءة ليقرأ عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضيّ إليهم ، فكلّهم يري فيه التثاقل ، فلمّا رأى ذلك منهم ندب (٢) إليهم رجلا ليتوجّه به.

فهبط إليه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد انّه لا يؤدّي عنك الاّ رجل منك ، فانبأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ووجّهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة ، فأتيت مكّة ـ وأهلها من قد عرفت ليس منهم أحد الاّ ان لو قدر ان يضع على كل جبل مني اربا (٣) لفعل ، ولو ان يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله.

فابلغتهم رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرأت كتابه عليهم ، وكلّهم يلقاني بالتهديد والوعيد ، ويبدي البغضاء ويظهر لي الشحناء (٤) من رجالهم ونسائهم ، فلم يتسنى (٥) ذلك

__________________

(١) في البحار : عبيد.

(٢) ندب فلانا للأمر أو إلى الأمر : دعاه ورشّحه للقيام به وحثه عليه.

(٣) الارب : العضو.

(٤) الشحناء : العداوة امتلأت منها النفس.

(٥) مأخوذ من التواني كما في قوله تعالى مخاطبا لموسى وهارون عليهما‌السلام : « ولا تنيا في ذكري ».

٣٧

حتى نفذت لما وجّهني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وأقول : وروى الطبري في تاريخه في حوادث سنة ستّ من هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله القصد لمكّة ومنعه أهلها ، انّ عمر بن الخطاب كان قد أمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يمضي إلى مكّة فلم يفعل واعتذر! فقال الطبري ما هذا لفظه : ثم دعا عمر بن الخطّاب ليبعثه إلى مكّة فيبلّغ عنه أشراف قريش ما حاله ، فقال : يا رسول الله انّي أخاف قريشا على نفسي! (٢).

أقول : فانظر حال مولانا علي عليه‌السلام من حال من تقدّم عليه ، كيف كان يفدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه في كلّ ما يشير به إليه ، وكيف كان غيره يؤثر عليه نفسه.

ومن ذلك شرح ابسط مما ذكرناه ، رواه حسن بن أشناس رحمه‌الله في كتابه أيضا فقال : وحدّثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا ، قال : حدثنا مالك بن إبراهيم النخعي ، قال : حدثنا حسين بن زيد ، قال : حدثني جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهم‌السلام قال : لمّا سرّح (٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر بأوّل سورة براءة إلى أهل مكّة ، أتاه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد انّ الله يأمرك ان لا تبعث هذا وان تبعث علي بن أبي طالب ، وانّه لا يؤدّيها عنك غيره ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب عليه‌السلام فلحقه وأخذ منه ، وقال : ارجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال أبو بكر : هل حدث في شيء؟ فقال علي عليه‌السلام : سيخبرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فرجع أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا رسول الله ما كنت ترى أنّي مؤدّ عنك هذه الرسالة؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبى الله ان يؤدّيها إلاّ

__________________

(١) رواه الصدوق مع اختلاف في الخصال ٢ : ٣٦٩ ، عنه البحار ٣٥ : ٢٨٦.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٢٧٨.

(٣) سرّحه : أرسله.

٣٨

علي بن أبي طالب ، فأكثر أبو بكر عليه من الكلام ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف تؤدّيها وأنت صاحبي في الغار (١).

قال : فانطلق علي عليه‌السلام حتى قدم مكّة ثمّ وافى عرفات ، ثمّ رجع إلى جمع ، ثم إلى منى ، ثم ذبح وحلق ، وصعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب ، فاذّن ثلاث مرّات : الا تسمعون يا أيّها الناس انّي رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليكم ، ثم قال :

( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ ، وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ـ الى قوله ـ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).

تسع آيات من أوّلها ، ثمّ لمع (٢) بسيفه فاسمع الناس وكرّرها ، فقال الناس : من هذا الّذي ينادي في الناس؟ فقالوا : علي بن أبي طالب ، وقال من عرفه من الناس : هذا ابن عمّ محمد ، وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمّد.

فأقام أيّام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ويقرء على النّاس غدوة وعشيّة ، فناداه الناس من المشركين : أبلغ ابن عمّك ان ليس له عندنا الاّ ضربا بالسيف وطعنا بالرّماح.

ثم انصرف علي عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقصد في السير ، وأبطأ الوحي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمر علي عليه‌السلام وما كان منه ، فاغتمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك غمّا شديدا رئي ذلك في وجهه ، وكفّ عن النساء من الهمّ والغمّ.

فقال بعضهم لبعض : لعلّ قد نعيت إليه نفسه (٣) أو عرض له مرض ، فقالوا لأبي ذر :

__________________

(١) هذا تعيير لأبي بكر وتشنيع له ، وإيهام بأنّك كنت معي في الغار خائفا فزعا مع استظهارك بي وعدم علم أحد من الناس إلى مكانك ، فكيف تقدر على تبليغ هذه السورة بملإ من الناس يوم الحج الأكبر ـ كما يأتي في كلام المؤلف.

(٢) لمع بسيفه : أشار.

(٣) أي أخبر بوفاته.

٣٩

قد نعلم منزلتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ترى ما به ، فنحن نحبّ أن يعلم لنا أمره ، فسأل أبو ذرّ رحمه‌الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما نعيت إلى نفسي وانّي لميّت ، وما وجدت في أمّتي الاّ خيرا ، وما بي من مرض ولكن من شدّة وجدي لعلي بن أبي طالب وإبطاء الوحي عنّي في امره ، وان الله عزّ وجل قد أعطاني في عليّ تسع خصال : ثلاثة لدنياي واثنتان لآخرتي ، واثنتان انا منهما آمن واثنتان أنا منهما خائف.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلّى الغداة استقبل القبلة بوجهه إلى طلوع الشمس يذكر الله عزّ وجلّ ، ويتقدّم علي بن أبي طالب عليه‌السلام خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستقبل النّاس بوجهه ، فيستأذنون في حوائجهم ، وبذلك أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلمّا توجّه علي عليه‌السلام إلى ذلك الوجه لم يجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكان عليّ لأحد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلّى وسلّم استقبل القبلة بوجهه ، فاذن للناس ، فقام أبو ذر فقال : يا رسول الله لي حاجة ، قال : انطلق في حاجتك.

فخرج أبو ذر من المدينة يستقبل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلمّا كان ببعض الطريق إذا هو براكب مقبل على ناقته ، فإذا هو علي عليه‌السلام ، فاستقبله والتزمه وقبّله ، وقال : بأبي أنت وأمّي اقصد في مسيرك حتى أكون أنا الذي أبشّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أمرك في غمّ شديد وهمّ ، فقال له علي عليه‌السلام : نعم.

فانطلق أبو ذر مسرعا حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : البشرى ، قال : وما بشراك يا أبا ذر؟ ، قال : قدم علي بن أبي طالب ، فقال له : لك بذلك الجنّة ، ثم ركب النبي عليه‌السلام وركب معه الناس ، فلمّا رآه أناخ ناقته (١) ، ونزل رسول الله صلّى الله

__________________

(١) أناخ الجمل : ابركه.

٤٠