الذي ليس مثله خسران ، وهو خسران مستمر ، لا ربح بعده ، بل ولا سلامة.
[١٦] ثمّ ذكر شدة ما يحصل لهم من الشقاء فقال : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) أي : قطع عذاب كالسحاب العظيم (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ) الوصف الذي وصفنا به عذاب أهل النار ، سوط يسوق الله به عباده إلى رحمته. (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي : جعل ما أعده لأهل الشقاء من العذاب ، داعيا يدعو عباده إلى التقوى ، وزجرا عمّا يوجب العذاب. فسبحان من رحم عباده في كلّ شيء ، وسهل لهم الطرق الموصلة لله ، وحثهم على سلوكها ، ورغّبهم بكل مرغب تشتاق له النفوس ، وتطمئن له القلوب. وحذّرهم من العمل لغير ذلك غاية التحذير ، وذكر لهم الأسباب الزاجرة عن تركه.
[١٧] ذكر تعالى هنا حال المنيبين وثوابهم فقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) والمراد بالطاغوت في هذا الموضع ، عبادة غير الله ، فاجتنبوها في عبادتها. وهذا من أحسن الاحتراز من الحكيم العليم ؛ لأن المدح إنّما يتناول المجتنب لها في عبادتها. (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) بعبادته وإخلاص الدين له ، فانصرفت دواعيهم عن عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلّام ، ومن الشرك والمعاصي ، إلى التوحيد والطاعات. (لَهُمُ الْبُشْرى) الّتي لا يقادر قدرها ، ولا يعلم وصفها ، إلا من أكرمهم بها. وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن ، والرؤيا الصالحة ، والعناية الربانية من الله ، الّتي يرون في خلالها ، أنه مريد لإكرامهم في الدنيا والآخرة. ولهم البشرى في الآخرة عند الموت ، وفي القبر ، وفي القيامة. وخاتمة البشرى ما يبشرهم به الرب الكريم ، من دوام رضوانه ، وبره ، وإحسانه ، وحلول أمانه في الجنة.
[١٨] ولما أخبر أن لهم البشرى ، أمره الله ببشارتهم ، وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ). وهذا جنس يشمل كلّ قول ، فهم يستمعون جنس القول ، ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره ، مما ينبغي اجتنابه ، فلهذا كان من حزمهم وعقلهم ، أنهم يتبعون أحسنه. وأحسنه على الإطلاق ، كلام الله ، وكلام رسوله كما قال في هذه السورة : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) الآية. في هذه الآية نكتة ، وهي : أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين ، أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، كأنه قيل : هل من طريق إلى معرفة أحسنه ، حتى نتصف بصفات أولي الألباب ، وحتى نعرف أن من آثره فهو من أولي الألباب؟ قيل : نعم ، أحسنه ما نص الله عليه بقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) الآية. (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) لأحسن الأخلاق والأعمال (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : العقول الزاكية. ومن لبهم وحزمهم ، أنهم عرفوا الحسن وغيره ، وآثروا ما ينبغي إيثاره ، على ما سواه. وهذا علامة العقل ، بل لا علامة للعقل سوى ذلك ، فإن الذي لا يميز بين الأقوال ، حسنها ، وقبيحها ، ليس من أهل العقول الصحيحة ، أو الذي يميز ، لكن لما غلبت شهوته على عقله ، فبقي عقله تابعا لشهوته ، فلم يؤثر الأحسن ، كان ناقص العقل.
[١٩] أي : أفمن وجبت عليه كلمة العذاب باستمراره على غيه ، وعناده ، وكفره ، فإنه لا حيلة لك في هدايته ، ولا تقدر أن تنقذ من في النار لا محالة. لكن الغنى ، والفوز كلّ الفوز ، للمتقين الّذين أعد لهم من الكرامة وأنواع النعيم ، ما لا يقادر قدره.
[٢٠] (لَهُمْ غُرَفٌ) أي : منازل عالية مزخرفة ، من حسنها ، وبهائها ، وصفائها ، أنه يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها. ومن علوها وارتفاعها ، أنها ترى كما يرى الكوكب الغابر ، في الأفق الشرقي أو الغربي. ولهذا قال : (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) أي : بعضها فوق بعض (مَبْنِيَّةٌ) بذهب وفضة ، وملاطها المسك الأذفر. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) المتدفقة ، الّتي تسقي البساتين الزاهرة ، والأشجار الطاهرة. فتغل أنواع الثمار اللذيذة ، والفاكهة النضيجة. (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) وقد وعد المتقين هذا الثواب ، فلا بد من الوفاء به ، فليوفوا بخصال التقوى ، ليوفيهم أجورهم.