عليم ، لا يعجزه شيء ، ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت بربوبيته ، واستكانت لعظمته ، وخضعت لجبروته. وغاية العبد الضعيف ، أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب ، التي بها وجدت هذه الأمور العظام ، فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه ، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له ، والخوف والرجاء ، وجميع الطاعة ، والذل والتعظيم. (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) ، وهو المطر النازل من السحاب. (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، فأظهرت من أنواع الأقوات ، وأصناف النباتات ، ما هو من ضرورات الخلائق ، التي لا يعيشون بدونها. أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله ، وأخرج به ما أخرج ورحمته ، ولطفه بعباده ، وقيامه بمصالحهم ، وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ (وَبَثَّ فِيها) ، أي : في الأرض (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) ، أي : نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة ، ما هو دليل على قدرته وعظمته ، ووحدانيته وسلطانه العظيم ، وسخّرها للناس ، ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع. فمنها : ما يأكلون من لحمه ، ويشربون من درّه ، ومنها : ما يركبون ، ومنها : ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم ، ومنها : ما يعتبر به ، ومنها : أنه بث فيها من كل دابة ، فإنّه سبحانه هو القائم بأرزاقهم ، المتكفل بأقواتهم ، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها. وفي (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) باردة وحارة ، وجنوبا وشمالا ، وشرقا ودبورا ، وبين ذلك ، وتارة تثير السحاب ، وتارة تؤلّف بينه ، وتارة تلقحه ، وتارة تدره ، وتارة تمزقه ، وتزيل ضرره ، وتارة تكون رحمة ، وتارة ترسل بالعذاب. فمن الذي صرفها هذا التصريف ، وأودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنه؟ وسخّرها ليعيش فيها جميع الحيوانات ، وتصلح الأبدان والأشجار ، والحبوب والنباتات ، إلا العزيز الحكيم الرحيم ، اللطيف بعباده ، المستحق لكل ذل وخضوع ، ومحبة وإنابة وعبادة؟ وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض ـ على خفته ولطافته ـ يحمل الماء الكثير ، فيسوقه الله إلى حيث شاء ، فيحيي به البلاد والعباد ، ويروي التلول والوهاد ، وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه. فإذا كان يضرهم كثرته ، أمسكه عنهم ، فينزله رحمة ولطفا ، ويصرفه عناية وعطفا ، فما أعظم سلطانه ، وأغزر إحسانه ، وألطف امتنانه!! أليس من القبيح بالعباد ، أن يتمتعوا برزقه ، ويعيشوا ببره ، وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره ، وعفوه وصفحه ، وعظيم لطفه؟ فله الحمد أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا. والحاصل ، أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات ، وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات ، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة ، علم بذلك ، أنها خلقت للحق ، وبالحق ، وأنها صحائف آيات ، وكتب دلالات ، على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته ، وما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر ، وأنها مسخرات ، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرّفها. فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون ، وإليه صامدون ، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات ، فلا إله إلا الله ، ولا رب سواه.
[١٦٥ ـ ١٦٧] ثم قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) ، إلى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ). ما أحسن اتصال هذه الآية بالتي قبلها ، فإنه تعالى ، لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة ، وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين ، المزيلة لكل شك ، ذكر هنا أن (مِنَ النَّاسِ) مع هذا البيان التام (مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) لله ، أي : نظراء ومثلاء ، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة ، والتعظيم والطاعة. ومن كان بهذه الحالة ـ بعد إقامة الحجة ، وبيان التوحيد ـ علم أنه معاند لله ، مشاق له ، أو معرض عن تدبر آياته ، والتفكر في مخلوقاته ، فليس له أدنى عذر في ذلك ، بل قد حقت عليه كلمة العذاب. وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله ، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير ، وإنما يسوونهم به في العبادة ، فيعبدونهم ليقربوهم إليه. وفي قوله : (يَتَّخِذُ) دليل على أنه ليس لله ند. وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا لله ، تسمية مجردة ، ولفظا فارغا من المعنى ، كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما