في سلطانه الذي هو الليل ، فلا يمكن أن توجد الشمس في الليل. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) فيدخل عليه قبل انقضاء سلطانه. (وَكُلٌ) من الشّمس والقمر والنجوم (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي : يترددون على الدوام. فكل هذا دليل ظاهر ، وبرهان باهر ، على عظمة الخالق ، وعظمة أوصافه. خصوصا ، وصف القدرة والحكمة ، والعلم في هذا الموضع.
[٤١ ـ ٤٢] أي : ودليل لهم وبرهان ، على أن الله وحده المعبود ، لأنه المنعم بالنعم ، الصارف للنقم ، الذي من جملة نعمه (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) قال كثير من المفسرين : المراد بذلك : آباؤهم. (وَخَلَقْنا لَهُمْ) أي : للموجودين من بعدهم (مِنْ مِثْلِهِ) أي : من مثل ذلك ، أي : جنسه (ما يَرْكَبُونَ) به. فذكر نعمته على الآباء ، بحملهم في السفن ، لأن النعمة عليهم ، نعمة على الذرية. وهذا الموضع من أشكل المواضع عليّ في التفسير. فإن ما ذكره كثير من المفسرين ، من أن المراد بالذرية الآباء ، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء. بل فيه من الإبهام ، وإخراج الكلام عن موضوعه ، ما يأباه كلام رب العالمين ، وإرادته البيان والتوضيح لعباده. وثمّ احتمال أحسن من هذا ، وهو أن المراد بالذرية ، الجنس ، وأنهم هم بأنفسهم ، لأنهم هم ، من ذرية بني آدم. ولكن ينقض هذا المعنى قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) إن أريد : وخلقنا من مثل ذلك الفلك ، أي لهؤلاء المخاطبين ، ما يركبون من أنواع الفلك ، فيكون ذلك تكريرا للمعنى ، تأباه فصاحة القرآن. فإن أريد بقوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) الإبل ، الّتي هي سفن البر ، استقام المعنى واتضح. إلا أنه يبقى أيضا ، أن يكون الكلام فيه تشويش ، فإنه لو أريد هذا المعنى ، لقال : وآية لهم أنّا حملناهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون. فأما أن يقول في الأول : حملنا ذريتهم ، وفي الثاني : حملناهم ، فإنه لا يظهر المعنى. إلا أن يقال : الضمير عائد إلى الذرية ، والله أعلم بحقيقة الحال. فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع ، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد الله تعالى. وذلك أن من عرف جلالة كتاب الله ، وبيانه التام من كلّ وجه ، للأمور الحاضرة والماضية ، والمستقبلة ، وأنه يذكر من كلّ معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله ، وكانت الفلك من آياته تعالى ، ونعمه على عباده ، من حين أنعم عليهم ، بتعلمها إلى يوم القيامة ، ولم تزل موجودة في كلّ زمان ، إلى زمان المواجهين بالقرآن. فلما خاطبهم الله تعالى بالقرآن ، وذكر حالة الفلك ، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك ، في غير وقتهم ، وفي غير زمانهم ، حين يعلمهم صنعة الفلك البحرية ، والشراعية منها والبخارية ، والجوية السابحة في الجو ، كالطيور ونحوها ، والمراكب البرية ، مما كانت الآية العظمى فيه لا توجد إلا في الذرية ، نبّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٤١) أي : المملوء ركبانا وأمتعة. فحملهم الله تعالى ، ونجاهم بالأسباب الّتي علمهم الله إياها ، من الغرق ، ولهذا نبههم على نعمته عليهم ، حيث أنجاهم من الغرق ، مع قدرته على ذلك قال :
[٤٣] (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي : لا أحد يصرخ لهم ، فيعاونهم على الشدة ، ولا يزيل عنهم المشقة