فليست حال الآخرة ، بمنزلة حال الدنيا ، يساعد الحميم حميمه ، والصديق صديقه. بل يوم القيامة ، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد ، ولو على والديه وأقاربه. (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : هؤلاء الذين يقبلون النذارة ، وينتفعون بها ، هم أهل الخشية لله بالغيب ، الذين يخشونه في حال السر والعلانية ، والمشهد والمغيب ، وأهل إقامة الصلاة ، بحدودها ، وشروطها ، وأركانها ، وواجباتها ، وخشوعها. لأن الخشية لله تستدعي من العبد ، العمل بما يخشى من تضييعه العقاب والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب. والصلاة تدعو إلى الخير ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر. (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي : ومن زكى نفسه بالتنقّي من العيوب ، كالرياء والكبر ، والكذب والغش ، والمكر والخداع ، والنفاق ، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة ، وتحلّى بالأخلاق الجميلة ، من الصدق ، والإخلاص ، والتواضع ، ولين الجانب ، والنصح للعباد ، وسلامة الصدر ، من الحقد والحسد ، وغيرهما من مساوئ الأخلاق ، فإن تزكيته ، يعود نفعها إليه ، ويصل مقصودها إليه ، ليس يضيع من عمله شيء. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فيجازي الخلائق على ما أسلفوه ، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها.
[١٩ ـ ٢٢] يخبر تعالى أنه لا يتساوى الأضداد في حكمة الله ، وفيما أودعه في فطر عباده. (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى) فاقد البصر (وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ). فكما أنه من المتقرر عندكم ، الذي لا يقبل الشك ، أن هذه المذكورات لا تتساوى ، فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية ، أولى وأولى. فلا يستوي المؤمن والكافر ، ولا المهتدي والضال ، ولا العالم والجاهل ، ولا أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ولا أحياء القلوب وأمواتها ، فإن بين هذه الأشياء من التفاوت والفرق ، ما لا يعلمه إلا الله تعالى. فإذا علمت المراتب ، وميزت الأشياء ، وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من ضده ، فليختر الحازم لنفسه ، ما هو أولى به ، وأحق بالإيثار. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) سماع فهم وقبول ، لأنه تعالى هو الهادي الموفق (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي : أموات القلوب. أو كما أن دعاءك لا يفيد سكان القبور شيئا ، كذلك لا يفيد المعرض المعاند شيئا. ولكن وظيفتك النذارة ، وإبلاغ ما أرسلت به ، قبل منك أم لا.
[٢٣ ـ ٢٤] ولهذا قال : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي : مجرد إرسالنا إياك بالحق ، لأنّ الله تعالى بعثك على حين فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، واندراس من العلم ، وضرورة عظيمة إلى بعثك ، فبعثك الله رحمة للعالمين. وكذلك ما بعثناك به من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، حق لا باطل. وكذلك ما أرسلناك به ، من هذا القرآن العظيم ، وما اشتمل عليه من الذكر الحكيم ، حق وصدق. (بَشِيراً) لمن أطاعك بثواب الله ، العاجل والآجل. (وَنَذِيراً) لمن عصاك ، بعقاب الله العاجل والآجل ، ولست ببدع من الرسل. (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية والقرون الخالية (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) يقيم عليهم حجة الله (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).