ما يعدكم به ، من البعث ، بعد أن تمزقتم ، وكنتم ترابا وعظاما ، فنظروا نظرا قاصرا ، ورأوا هذا ، بالنسبة إلى قدرهم غير ممكن ، فقاسوا قدرة الخالق بقدرتهم. تعالى الله عن ذلك. فأنكروا قدرته على إحياء الموتى وعجزوه غاية التعجيز ، ونسوا خلقهم أول مرة ، وأن الذي أنشأهم من العدم ، فإعادته لهم بعد البلى ، أهون عليه وكلاهما هين لديه ، فلم لا ينكرون أول خلقهم ، ويكابرون المحسوسات ، ويقولون : إننا ، لم نزل موجودين ، حتى يسلم لهم إنكارهم البعث ، وينتقلوا معهم إلى الاحتجاج على إثبات وجود الخالق العظيم؟ وهنا دليل آخر ، وهو : أن الذي أحيا الأرض بعد موتها ، إن ذلك لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير ، وثمّ دليل آخر ، وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣) فقال في جوابهم : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي : في البلى ، (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ).
[٣٧ ـ ٤١] (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي : يموت أناس ، ويحيا أناس (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) (١) فلهذا أتى بما أتى به ، من توحيد الله ، وإثبات المعاد (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي : ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره ، احتراما له ، ولأنه مجنون غير مؤاخذ بما يتكلم به. أي : فلم يبق بزعمهم الباطل ، مجادلة معه ، لصحة ما جاء به ، فإنهم قد زعموا بطلانه ، وإنما بقي الكلام ، هل يوقعون به أم لا؟ فبزعمهم أن عقولهم الرزينة ، اقتضت الإبقاء عليه ، وترك الإيقاع به ، مع قيام الموجب ، فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟ ولهذا لما اشتد كفرهم ، ولم ينفع فيهم الإنذار ، دعا عليهم نبيهم ف : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي : بإهلاكهم ، وخزيهم الدنيوي ، قبل الآخرة. ف (قالَ) الله مجيبا لدعوته : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ) لا بالظلم والجور ، بل بالعدل وظلمهم ، أخذتهم الصيحة ، فأهلكتهم عن آخرهم. (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي : هشيما يبسا بمنزلة غثاء السيل الملقى في جنبات الوادي ، وقال في الآية الأخرى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٣١). (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : أتبعوا مع عذابهم ، البعد واللعنة والذم من العالمين. (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩) ، هذا التعبير مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم ، وفيه تهكم بهم ، وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده ، فيقال عنه : «بكت عليه السماء والأرض». ومنه ما روي : «أن المؤمن إذا مات ، ليبكي عليه مصلاه ، ومحل عبادته ، ومصاعد عمله ، ومهابط رزقه ، وآثاره في الأرض» ، وعن الحسن «يبكي عليه أهل السماء والأرض». (وَما كانُوا) لما جاءهم وقت هلاكهم (مُنْظَرِينَ) أي : ممهلين إلى وقت آخر ، بل عجل لهم العذاب في الدنيا ، والمعنى الإجمالي : فما حزنت عليهم السماء والأرض عند ما أخذهم العذاب ، لهوان شأنهم ، لأنهم ماتوا كفارا ، ولم ينظروا لتوبة ، ولم يمهلوا
__________________
(١) هكذا في الأصل ، وجرى عليه تفسير الآية [٢٥] من سورة المؤمنون ، وهو خطأ ، وفي المصحف الشريف الآية [٣٨] (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ، فتأمل.