على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟ وذلك أن الذرية ـ في الغالب ـ بعضها من بعض ، في الصلاح وضده ، فتعجبوا ـ بحسب ما قام بقلوبهم ـ كيف وقع منها. فأشارت لهم إليه ، أي : كلموه.
[٢٩] وإنما أشارت لذلك ، لأنها أمرت عند مخاطبة الناس لها أن تقول : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، فلما أشارت إليهم بتكليمه ، تعجبوا من ذلك وقالوا : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) لأن ذلك لم تجر به عادة ، ولا حصل من أحد في ذلك السن.
[٣٠] فحينئذ قال عيسى عليهالسلام ، وهو في المهد صبي : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ، فخاطبهم بوصفه بالعبودية ، وأنه ليس فيه صفة ، يستحق بها أن يكون إلها ، أو ابنا للإله ، تعالى الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى ـ في قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ومدعون موافقته. (آتانِيَ الْكِتابَ) أي : قضى أن يؤتيني الكتاب (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فأخبرهم بأنه عبد الله ، وأن الله علمه الكتاب ، وجعله من جملة أنبيائه ، فهذا من كماله لنفسه. ثم ذكر تكميله لغيره فقال :
[٣١] (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) أي : في أي مكان ، وأي زمان ، فالبركة جعلها الله فيّ من تعليم الخير والدعوة إليه ، والنهي عن الشر ، والدّعوة إلى الله في أقواله ، وأفعاله فكل من جالسه ، أو اجتمع به ، نالته بركته ، وسعد به مصاحبه. (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) أي : أوصاني بالقيام بحقوقه ، التي من أعظمها الصلاة ، وحقوق عباده ، التي أجلها الزكاة ، مدة حياتي ، أي : فأنا ممتثل لوصية ربي ، عامل عليها ، منفذ لها.
[٣٢] وأوصاني أيضا ، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان ، وأقوم بما ينبغي لها ، لشرفها وفضلها ، ولكونها والدة ، لها حق الولادة وتوابعها. (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أي : متكبرا على الله ، مترفعا على عباده (شَقِيًّا) في دنياي وأخراي ، فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا ، متواضعا لعباد الله ، سعيدا في الدنيا والآخرة ، أنا ومن اتبعني.
[٣٣] فلما تم له الكمال ، ومحامد الخصال قال : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣) أي : من فضل ربي وكرمه ، حصلت لي السلامة يوم ولادتي ، ويوم بعثي ـ من الشر ، والشيطان والعقوبة ، وذلك يقتضي سلامته من الأهوال ، ودار الفجار ، وأنه من أهل دار السّلام ، فهذه معجزة عظيمة ، وبرهان باهر ، على أنه رسول الله ، وعبد الله حقا.
[٣٤] أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات ، عيسى ابن مريم ، من غير شك ولا مرية ، بل قول الحق ، وكلام الله ، الذي لا أصدق منه قيلا ، ولا أحسن منه حديثا ، فهذا الخبر اليقيني ، عن عيسى عليهالسلام ، وما قبل فيه مما يخالف هذا ، فإنه مقطوع ببطلانه ، وغايته أن يكون شكا من قائله لا علم له به ، ولهذا قال : (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي : يشكون فيمارون بشكهم ، ويجادلون بخرصهم ، فمن قائل عنه : إنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن إفكهم وتقوّلهم ، علوا كبيرا.
[٣٥] ف (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) أي : ما ينبغي ولا يليق ، لأن ذلك من الأمور المستحيلة ، لأنه الغني الحميد ، المالك لجميع الممالك ، فكيف يتخذ من عباده ومماليكه ولدا؟ (سُبْحانَهُ) أي : تنزه وتقدس عن الولد والنقص. (إِذا قَضى أَمْراً) أي : من الأمور الصغار والكبار ، لم يمتنع ، عليه ولم يستصعب (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي ، فكيف يكون له ولد؟ وإذا كان إذا أراد شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ) فكيف يستبعد إيجاده عيسى من غير أب؟!!
[٣٦] ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره فقال : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) الذي خلقنا ، وصورنا ، ونفذ فينا تدبيره ، وصرفنا تقديره. (فَاعْبُدُوهُ) أي : أخلصوا له العبادة ، واجتهدوا في الإنابة ، وفي هذا ، الإقرار بتوحيد