السَّحَرَةُ) لمغالبة موسى (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي : أي شيء أردتم ، لا أعين لكم شيئا. وذلك لأنه جازم بغلبته ، غير مبال بهم ، وبما جاءوا به. (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم ، إذا هي كأنها حيات تسعى ، (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي : هذا السحر الحقيقي العظيم ، ولكن مع عظمته (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ). فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحقّ ، وأي فساد أعظم من هذا؟ وهكذا كل مفسد ، عمل عملا ، واحتال كيدا ، أو أتى بمكر ، فإن عمله سيبطل ويضمحل ، وإن حصل لعمله رواج في وقت ما ، فإن مآله الاضمحلال والمحق. وأما المصلحون ، الّذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى ، وهي أعمال ووسائل نافعة ، مأمور بها ، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها ، وينميها على الدوام ، فألقى موسى عصاه ، فتلقفت جميع ما صنعوا ، فبطل سحرهم ، واضمحل باطلهم. (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢) فأذعن السحرة ، حين تبين لهم الحقّ ، فتوعدهم فرعون بالصلب ، وتقطيع الأيدي والأرجل ، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم. وأما فرعون وملؤه ، وأتباعهم ، فلم يؤمن منهم أحد ، بل استمروا في طغيانهم يعمهون. ولهذا قال : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي : شباب من بني إسرائيل ، صبروا على الخوف ، لما ثبت في قلوبهم الإيمان. (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) عن دينهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي : له القهر والغلبة فيها ، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته. (وَ) خصوصا (إِنَّهُ) كان (لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي : المتجاوزين للحد في البغي والعدوان. والحكمة ـ والله أعلم ـ بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، أن الذرية والشباب ، أقبل للحق ، وأسرع له انقيادا ، بخلاف الشيوخ ونحوهم ، ممن تربى على الكفر فإنهم ـ بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة ـ أبعد عن الحقّ من غيرهم.
[٨٤] (وَقالَ مُوسى) موصيا لقومه بالصبر ، ومذكرا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) فقوموا بوظيفة الإيمان بالله. (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي : اعتمدوا عليه ، وألجئوا إليه واستنصروه.
[٨٥] (فَقالُوا) ممتثلين لذلك (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : تسلطهم علينا ، فيفتنونا ، أو يغلبونا ، فيفتنونا بذلك ، ويقولون : لو كانوا على حق لما غلبوا.
[٨٦] (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) لنسلم من شرهم ، ولنقيم على ديننا على وجه نتمكن به من إقامة شرائعه ، وإظهاره من غير معارض ، ولا منازع.
[٨٧] (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ) حين اشتد الأمر على قومهما من فرعون وقومه ، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم. (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) أي : مروهم أن يجعلوا لهم بيوتا ، يتمكنون بها من الاستخفاء فيها. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي : اجعلوها محلا ، تصلون فيها ، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس ، والبيع العامة. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فإنها معونة على جميع الأمور ، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والتأييد ، وإظهار دينهم ، فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا ، وإذا اشتد الكرب ، وضاق الأمر ، فرّجه الله ، ووسعه ، فلما رأى موسى القسوة والإعراض من فرعون وملئه ، دعا عليهم ، وأمّن هارون على دعائه ، فقال :
[٨٨] (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) يتزينون بها من أنواع الحلي والثياب ، والبيوت المزخرفة ، والمراكب الفاخرة ، والخدام ، (وَأَمْوالاً) عظيمة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي : إن أموالهم يستعينون بها على الإضلال في سبيلك ، فيضلّون ويضلّون. (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أي : أتلفها عليهم : إما بالهلاك ، وإما بجعلها حجارة ، غير منتفع بها. (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : قسّها (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ). قال ذلك ، غضبا عليهم ، حيث تجرأوا على محارم الله ، وأفسدوا عباد الله ، وصدوا عن سبيله ، ولكمال معرفته بربه ، بأن الله سيعاقبهم على ما فعلوا ، بإغلاق باب الإيمان عليهم.
[٨٩] (قالَ) الله تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) ، وهذا دليل على أن موسى كان يدعو ، وهارون يؤمّن على