الحصر ، وهو إثبات الحكم للمذكور ، ونفيه عما عداه ، فكأنه يقول : نعبدك ،
ولا نعبد غيرك ، ونستعين بك ، ولا نستعين بغيرك.
وتقديم العبادة
على الاستعانة ، من باب تقديم العام على الخاص ، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق
عبده ، و «العبادة» اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة
والباطنة ، و «الاستعانة» هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ، ودفع المضار
، مع الثقة به في تحصيل ذلك. والقيام بعبادة الله والاستعانة به هما الوسيلة
للسعادة الأبدية ، والنجاة من جميع الشرور ، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام
بهما.
وإنما تكون
العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مقصودا بها وجه الله ، فبهذين الأمرين تكون عبادة ،
وذكر «الاستعانة» بعد «العبادة» مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته
إلى الاستعانة بالله تعالى ، فإنه إن لم يعنه الله ، لم يحصل له ما يريده من فعل
الأوامر ، واجتناب النواهي. ثم قال تعالى :
[٦] (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)) أي : دلنا وأرشدنا ، ووفقنا إلى الصراط المستقيم ، وهو
الطريق الواضح الموصل إلى الله ، وإلى جنته ، وهو معرفة الحق والعمل به ، فاهدنا
إلى الصراط واهدنا في الصراط ، فالهداية إلى الصراط ، لزوم دين الإسلام ، وترك ما
سواه من الأديان.
والهداية في
الصراط ، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع
الأدعية ، وأنفعها للعبد ، ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من
صلاته ، لضرورته إلى ذلك. وهذا الصراط المستقيم هو :
[٧] (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، (غَيْرِ) صراط (الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم ، (وَلَا) صراط (الضَّالِّينَ) الذين تركوا الحق على جهل وضلال ، كالنصارى ونحوهم.
فهذه السورة ،
على إيجازها ، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن ، فتضمنت أنواع
التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وتوحيد الإلهية ، وهو إفراد الله بالعبادة ، يؤخذ من
لفظ : الله ومن قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى ، التي
أثبتها لنفسه ، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ، وقد دل على
ذلك لفظ (الْحَمْدُ) كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.
وإثبات الجزاء
على الأعمال في قوله : (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) (٤) وأن الجزاء يكون بالعدل ، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل. وتضمنت إثبات
القدر ، وأن العبد فاعل حقيقة ، خلافا للقدرية والجبرية.
بل تضمنت الرد
على جميع أهل البدع والضلال في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) (٦) لأنه معرفة الحق والعمل به ، وكل مبتدع وضال فهو مخالف لذلك. وتضمنت
إخلاص الدين لله تعالى ، عبادة ، واستعانة في قوله :
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) فالحمد لله رب العالمين.