مربي جميع خلقه بأنواع التدابير الإلهية ، التي من جملتها أنه لا يتركهم سدى ، بل يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، وهو الذي لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه ، ويدعي أنه أرسله ، ولم يرسله. فإذا كان هذا شأنه ، وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته ، فحقيق عليّ أن لا أكذب عليه ، ولا أقول عليه إلا الحقّ ، فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة ، وأخذني أخذ عزيز مقتدر. فهذا موجب لأن ينقادوا له ويتبعوه ، خصوصا وقد جاءهم ببينة من الله واضحة ، على صحة ما جاء به من الحقّ فوجب عليهم ، أن يعملوا بمقصود رسالته ، ولها مقصودان عظيمان ، إيمانهم به ، واتباعهم له ، وإرسال بني إسرائيل ، الشعب الذي فضله الله على العالمين ، أولاد الأنبياء ، وسلسلة يعقوب عليهالسلام ، الذي موسى عليه الصلاة والسّلام واحد منهم.
[١٠٦ ـ ١٠٧] فقال له فرعون : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ) في الأرض (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي : حية ظاهرة ، تسعى ، وهم يشاهدونها.
[١٠٨ ـ ١١٣] (وَنَزَعَ يَدَهُ) من جيبه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) من غير سوء. فهاتان آيتان كبيرتان ، دالتان على صحة ما جاء به موسى وصدقه ، وأنه رسول رب العالمين ، ولكن الّذين لا يؤمنون ، لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون ، حتى يروا العذاب الأليم. فلهذا (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) حين بهرهم ما رأوا من الآيات ، ولم يؤمنوا ، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي : ماهر في سحره. ثمّ خوفوا ضعفاء الأحلام ، وسفهاء العقول ، بأنه (يُرِيدُ) موسى بفعله هذا (أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي : يريد أن يجليكم عن أوطانكم (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي : إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى ، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم ، فإن ما جاء به ، إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه ، وإلا دخل في عقول أكثر الناس ، فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي احبسهما ، وأمهلهما ، وابعث في المدائن أناسا ، يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم ، أي : يجيئون بالسحرة المهرة ، ليقابلوا ما جاء به موسى ، فقالوا : يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى. (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) (٦٠). وقال هنا : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) طالبين منه الجزاء إن غلبوا (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ)؟
[١١٤ ـ ١١٥] ف (قالَ) فرعون : (نَعَمْ) لكم أجر (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). فوعدهم الأجر والتقريب ، وعلو المنزلة عنده ، ليجتهدوا ويبذلوا وسعهم وطاقتهم ، في مغالبة موسى. فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق العظيم (قالُوا) على وجه التألي وعدم المبالاة ، بما جاء به موسى : (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) ما معك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ).
[١١٦] (قالَ) موسى : (أَلْقُوا) لأجل أن يرى الناس ما معهم ، وما مع موسى. (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم ، إذا هي من سحرهم ، كأنها حيات تسعى ، وبذلك (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)