[٨٥ ـ ٨٦] أي : (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ) القبيلة المعروفة (أَخاهُمْ) في النسب (شُعَيْباً) يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ويأمرهم بإيفاء المكيال والميزان : وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم ، وأن لا يعثوا في الأرض مفسدين ، بالإكثار من عمل المعاصي ، ولهذا قال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فإن ترك المعاصي ، امتثالا لأمر الله ، وتقربا إليه ـ خير ، وأنفع للعبد ، من ارتكابها الموجب لسخط الجبار ، وعذاب النار. (وَلا تَقْعُدُوا) للناس (بِكُلِّ صِراطٍ) أي : طريق من الطرق ، التي يكثر سلوكها ، تحذرون الناس منها (تُوعِدُونَ) من سلوكها (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) أي من أراد الاهتداء به (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي : تبغون سبيل الله تكون معوجة ، وتميلونها ، اتباعا لأهوائكم. وقد كان الواجب عليكم وعلى غيركم ، الاحترام والتعظيم للسبيل التي نصبها الله لعباده ليسلكوها إلى مرضاته ، ودار كرامته ، ورحمهم بها أعظم رحمة ، وتصدون لنصرتها ، والدعوة إليها ، والذب عنها ، لا أن تكونوا أنتم قطاع طريقها ، الصادين الناس عنها ، فإن هذا كفر لنعمة الله ، ومحادة لله ، وجعل أقوم الطرق وأعدلها ، ماثلة ، وتشنعون على من سلكها. (وَاذْكُرُوا) نعمة الله عليكم (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) أي : نماكم بما أنعم عليكم من الزوجات ، والنسل ، والصحة. وأنه ما ابتلاكم بوباء أو مرض من الأمراض المقللة لكم ، ولا سلط عليكم عدوا يجتاحكم ولا فرقكم في الأرض ، بل أنعم عليكم ، باجتماعكم. وإدرار الأرزاق ، وكثرة النسل. (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) فإنكم لا تجدون في جموعهم إلا الشتات ، ولا في ربوعهم ، إلا الوحشة والانبتات. ولم يورثوا ذكرا حسنا ، بل أتبعوا في هذه الدنيا ، لعنة ، ويوم القيامة خزيا وفضيحة.
[٨٧] (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) وهم الجمهور منهم. (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فينصر المحق ، ويوقع العقوبة على المبطل.
[٨٨] (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) وهم الأشراف ، والكبراء منهم ، الّذين اتبعوا أهواءهم ، ولهوا بلذاتهم. فلما أتاهم الحقّ ، ورأوه غير موافق لأهوائهم الرديئة ، ردوه ، واستكبروا عنه. فقالوا لنبيهم شعيب ، ومن معه من المؤمنين المستضعفين : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ، استعملوا قوتهم السبعية ، في مقابلة الحقّ ، ولم يراعوا دينا ، ولا ذمة ، ولا حقا ، وإنّما راعوا ، واتبعوا أهواءهم ، وعقولهم السفيهة التي دلتهم على هذا القول الفاسد ، فقالوا : إما أن ترجع أنت ومن معك إلى ديننا أو لنخرجنكم من قريتنا. ف «شعيب» عليه الصلاة والسّلام ، كان يدعوهم ، طامعا في إيمانهم ، والآن لم يسلم ، حتى توعدوه إن لم يتابعهم ـ بالجلاء عن وطنه ، الذي هو ومن معه أحق به منهم. (قالَ) لهم شعيب عليه الصلاة والسّلام متعجبا من قولهم : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أي : أنتابعكم على دينكم وملتكم الباطلة ، ولو كنا كارهين لها لعلمنا ببطلانها ، فإنما يدعى إليها ، من له نوع رغبة فيها ، أما من يعلن بالنهي عنها ، والتشنيع على من اتبعها فكيف يدعى إليها؟