[٤٨] ثمّ ذكر الخصوص بعد العموم فقال : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) وهم من أهل النار ، وقد كانوا في الدنيا لهم أبهة وشرف ، وأموال ، وأولاد ، فقال لهم أصحاب الأعراف ، حين رأوهم منفردين في العذاب ، بلا ناصر ولا مغيث : (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) في الدنيا ، الذي كنتم تستدفعون به المكاره ، وتتوسلون به إلى مطالبكم في الدنيا ، فاليوم اضمحل ، ولم يغن عنكم شيئا ، وكذلك ، أي شيء نفعكم استكباركم على الحقّ ، وعلى من جاء به ، وعلى من اتبعه. ثمّ أشاروا لهم ، إلى أناس من أهل الجنة ، كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء يستهزىء بهم أهل النار ، فقالوا لأهل النار : (أَهؤُلاءِ) الّذين أدخلهم الله الجنة (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) احتقارا لهم ، وازدراء ، وإعجابا بأنفسكم ، قد حنثتم في أيمانكم ، وبدا لكم من الله ، ما لم يكن لكم في حساب. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) بما كنتم تعملون ، أي : قيل لهؤلاء الضعفاء ، إكراما واحتراما : ادخلوا الجنة بأعمالكم الصالحة. (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) فيما يستقبل من المكاره (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) على ما مضى ، بل آمنون مطمئنون ، فرحون بكل خير. وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) (٣٠) إلى أن قال : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) (٢٣) ، واختلف أهل العلم والمفسرون ، من هم أصحاب الأعراف ، وما أعمالهم؟ والصحيح من ذلك ، أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلا رجحت سيئاتهم ، فدخلوا النار ، ولا رجحت حسناتهم ، فدخلوا الجنة فصاروا في الأعراف ما شاء الله ، ثمّ إن الله تعالى يدخلهم ـ برحمته ـ الجنة ، فإن رحمته تسبق وتغلب غضبه ، ورحمته وسعت كل شيء.
[٥٠] أي : ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة ، حين يبلغ منهم العذاب كل مبلغ ، وحين يمسهم الجوع المفرط ، والظمأ الموجع ، يستغيثون بهم ، فيقولون : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الطعام ، فأجابهم أهل الجنة بقولهم : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما) أي : ماء الجنة وطعامها (عَلَى الْكافِرِينَ) ، وذلك جزاء لهم على كفرهم بآيات الله ، واتخاذهم دينهم الذي أمروا أن يستقيموا عليه ، ووعدوا بالجزاء الجزيل عليه.
[٥١] (لَهْواً وَلَعِباً) أي : لهت قلوبهم ، وأعرضت عنه ، ولعبوا ، واتخذوه سخريا ، أو أنهم جعلوا دينهم ، اللهو واللعب ، واستعاضوا بذلك عن الدين القيم. (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزينتها وزخرفها ، وكثرة دعاتها ، فاطمأنوا إليها ، ورضوا بها ، وفرحوا ، وأعرضوا عن الآخرة ونسوها. (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) أي : نتركهم في العذاب (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) فكأنهم لم يخلقوا إلا للدنيا ، وليس أمامهم عرض ولا جزاء. (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) والحال أن جحودهم هذا ، لا عن قصور في آيات الله وبيناته ،
[٥٢] بل قد (جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) أي بينا فيه جميع المطالب ، التي يحتاج إليها الخلق (عَلى عِلْمٍ) من الله بأحوال العباد في كل زمان ومكان ، وما يصلح لهم وما لا يصلح ، ليس تفصيله تفصيل غير عالم بالأمور ، فيجهل بعض الأحوال ، فيحكم حكما غير مناسب ، بل تفصيل من أحاط علمه بكل شيء ، ووسعت رحمته كل شيء. (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي : تحصل للمؤمنين بهذا الكتاب ، الهداية من الضلال ، وبيان الحقّ والباطل ، والغيّ والرشد ، ويحصل أيضا لهم به الرحمة ، وهي : الخير والسعادة في الدنيا والآخرة فينتفي عنهم بذلك ، الضلال والشقاء. وهؤلاء الّذين حق عليهم العذاب ، لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم ، ولا انقادوا لأوامره ونواهيه ، فلم يبق فيهم حيلة ، إلا استحقاقهم أن يحل بهم ، ما أخبر به القرآن.
[٥٣] ولهذا قال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي : وقوع ما أخبر به ، كما قال يوسف عليهالسلام حين وقعت رؤياه : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ). (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) متندمين متأسفين على ما مضى ، متشفعين في مغفرة ذنوبهم ، مقرين بما أخبرت به الرسل : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ) إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) وقد فات الوقت عن الرجوع إلى الدنيا. (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ