الباطل ، وجحدوا لذلك الحق. وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك. وهذا غاية الكفر والعناد ، والشرود عن الانقياد. وكذلك يخاطبون الرسول صلىاللهعليهوسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب ، فيقولون : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) قصدهم : اسمع منا غير مسمع ما تحب ، بل مسمع ما تكره. (وَراعِنا) قصدهم بذلك الرعونة ، بالعيب القبيح. ويظنون أن اللفظ ـ لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور ـ أنه يروج على الله وعلى رسوله ، فتوصلوا بذلك اللفظ الذي يلوون به ألسنتهم ، إلى الطعن في الدين ، والعيب للرسول ، ويصرحون بذلك فيما بينهم ، فلهذا قال : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ). ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ). وذلك لما تضمنه هذا الكلام ، من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول ، والدخول تحت طاعة الله ، والانقياد لأمره ، وحسن التلطف في طلبهم العلم ، بسماع سؤالهم ، والاعتناء بأمرهم. فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية ، أعرضوا عن ذلك ، وطردهم الله ، بكفرهم وعنادهم. ولهذا قال : (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).
[٤٧] يأمر تعالى أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، أن يؤمنوا بالرسول محمد صلىاللهعليهوسلم ، وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم ، المهيمن على غيره ، من الكتب السابقة التي صدقها ، فإنها أخبرت به. فلما وقع المخبر به ، كان تصديقا لذلك الخبر. وأيضا ، فإنهم ـ إن لم يؤمنوا بهذا القرآن ، فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا ، ويوافق بعضها بعضا. فدعوى الإيمان ببعضها ، دون بعض ، دعوى باطلة ، لا يمكن صدقها. وفي قوله : (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) حث لهم ، وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم ، مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به ، من العلم ، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم ، أعظم من غيرهم ، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) وهذا جزاء من جنس ما عملوا. فكما تركوا الحق ، وآثروا الباطل ، وقلبوا الحقائق ، فجعلوا الباطل حقا ، والحق باطلا جوزوا من جنس ذلك ، بطمس وجوههم ، كما طمسوا الحق ، وردها على أدبارها ، بأن تجعل في أقفائهم ، وهذا أشنع ما يكون. (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) بأن يطردهم من رحمته ، ويعاقبهم بجعلهم قردة ، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت. (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) كقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢).
[٤٨] يخبر تعالى أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين ، ويغفر ما دون ذلك ، من الذنوب ، صغائرها ، وكبائرها ، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك ، إذا اقتضت حكمته مغفرته. فالذنوب التي دون الشرك ، قد جعل الله لمغفرتها ، أسبابا كثيرة كالحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة في الدنيا ، والبرزخ ، ويوم القيامة ، وكدعاء المؤمنين ، بعضهم لبعض ، وبشفاعة الشافعين. ومن دون ذلك كله ، رحمته ، التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد. وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك ، قد سد على نفسه أبواب المغفرة ، وأغلق دونه أبواب الرحمة ، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد ، ولا تفيده المصائب شيئا وما لهم يوم القيامة (مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١٠١). ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي : افترى جرما كبيرا. وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق ـ من تراب ، الناقص من جميع الوجوه ، الفقير بذاته من كل وجه. الذي لا يملك لنفسه ـ فضلا عمّن عبده ـ نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ـ بالخالق لكل شيء الكامل من جميع الوجوه ، الغني بذاته ، عن جميع مخلوقاته ، الذي بيده النفع والضر ، والعطاء والمنع ، الذي ما من نعمة بالمخلوقين ، إلا منه تعالى. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ). وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب. وأما التائب ، فإنه يغفر له الشرك فما دونه ، كما قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى)