ممن ليس كذلك. (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) ، وهذا أيضا من بعض الحكم ، لأن الشهادة عند الله ، من أرفع المنازل ، ولا سبيل لنيلها ، إلا بما يحصل من وجود أسبابها ، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين ، أن قيّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس ، لينيلهم ما يحبون ، من المنازل العالية والنعيم المقيم. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ، الذين ظلموا أنفسهم ، وتقاعدوا عن القتال في سبيله. (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦).
[١٤١] (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وهذا أيضا من الحكم ، أن الله يمحص بذلك المؤمنين ، من ذنوبهم وعيوبهم ، يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله ، تكفر الذنوب ، وتزيل العيوب. ويمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين ، فيتخلصون منهم ، ويعرفون المؤمن من المنافق. ومن الحكم أيضا أن يقدر ذلك ، ليمحق الكافرين ، أي : ليكون سببا لمحقهم ، واستئصالهم بالعقوبة ، فإنهم إذا انتصروا ، بغوا ، وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم ، يستحقون به المعاجلة بالعقوبة ، رحمة بعباده المؤمنين.
[١٤٢] ثم قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) هذا استفهام إنكاري ، أي : لا تظنوا ، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة ، واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، فإن في الجنة أعلى المطالب ، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون ، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته ، والعمل الموصل إليه ، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة ، ولا يدرك النعيم ، إلا بترك النعيم. ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله ـ عند توطين النفس لها ، وتمرينها عليها ، ومعرفة ما تؤول إليه ، تنقلب ـ عند أرباب البصائر ـ منحا يسرون بها ، ولا يبالون بها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
[١٤٣] ثم وبخهم تعالى ، على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ، ويودون حصوله ، فقال : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) ، وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر ، كانوا يتمنون أن يحضرهم الله مشهدا ، يبذلون فيه جهدهم. قال الله تعالى لهم : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) ، أي : ما تمنيتم بأعينكم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ، فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ، ولا تحسن ، خصوصا لمن تمنى ذلك ، وحصل له ما تمنى ، فإن الواجب عليه ، بذل الجهد ، واستفراغ الوسع في ذلك. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة ، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم ، ولم ينكر عليهم ، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها ، والله أعلم.
[١٤٤] ثم قال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) إلى (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). يقول تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ، أي : ليس ببدع من الرسل ، بل هو من جنس الرسل الذين قبله ، وظيفتهم تبليغ رسالة ربهم ، وتنفيذ أوامره ، ليسوا بمخلدين ، وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله ، بل الواجب على الأمم ، عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال ، ولهذا قال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) بترك ما جاءكم به ، من إيمان أو جهاد ، أو غير ذلك. قال تعالى : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) إنما يضر نفسه ، وإلا ، فالله تعالى