انسجي لي مدرعة من شعر ، وبرنسا من صوف ، حتى آتي بيت المقدس فأعبد الله مع الأحبار والرّهبان. فقالت له أمّه : حتى يأتي نبي الله واستأمره (١) في ذلك.
فلما دخل زكريا عليهالسلام أخبرته بمقالة يحيى ، فقال له زكريا : يا بنيّ ، ما يدعوك إلى هذا ، وإنما أنت صبي صغير؟ فقال له : يا أبت ، أما رأيت من هو أصغر سنّا مني وقد أدركه الموت؟ قال : بلى ، ثم قال لأمّه : انسجي له مدرعة من شعر ، وبرنسا من صوف. ففعلت ، فتدرّع المدرعة على بدنه ، ووضع البرنس على رأسه ، ثم أتى بيت المقدس ، فأقبل يعبد الله عزوجل مع الأحبار حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه.
فنظر ذات يوم إلى ما قد نحل من جسمه ، فبكى ، فأوحى الله عزوجل إليه ، يا يحيى ، أتبكي مما قد نحل من جسمك! وعزتي وجلالي لو اطلعت إلى النار اطّلاعة لتدرّعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج (٢). فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه ، وبدت للناظرين أضراسه ، فبلغ ذلك أمّه ، فدخلت عليه ، وأقبل زكريا عليهالسلام ، واجتمع الأحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه ، فقال : ما شعرت بذلك.
فقال زكريا عليهالسلام : يا بنيّ ، ما يدعوك إلى هذا؟ إنما سألت ربّي أن يهبك لي لتقرّ بك عيني. قال : أنت أمرتني بذلك ، يا أبت. قال : ومتى ذلك ، يا بني. قال : ألست القائل : إن بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلّا البكاءون من خشية الله؟ قال : بلى؟ فجدّ واجتهد ، وشأنك غير شأني.
فقام يحيى فنفض مدرعته ، فأخذته أمّه ، فقالت : أتأذن لي ـ يا بني ـ أن أتخذ لك قطعتي لبود تواريان أضراسك ، وتنشّفان دموعك؟ قال لها : شأنك ،
__________________
(١) أي أستشيره.
(٢) المنسوج : وهي الألبسة المتخذة من الشعر.