القرآن أوّلا على نهج أهل الظاهر تفسيرا قويما ، ثمّ يعرّج على تفسيره وفق مذاقات أهل الباطن ، في ظرافة ولباقة كلّا في أحسن بيان ، مقرّا بأنّ تفسير الظاهر هو الأصل ، ولولاه لما أمكن استخراج الباطن الذي هو الفرع.
نعم يرون من تفسير الباطن اللباب الخابئ تحت ذاك العباب.
قال سهل بن عبد الله التستري ـ في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(١) ـ :
يعني : شرك النفس الأمّارة بالسّوء.
[م / ٣٥] كما قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الشرك في أمّتي أخفى من دبيب النمل على الصفا» (٢).
قال : هذا باطن الآية. وأمّا ظاهرها فمشركو العرب يؤمنون بالله ، كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٣). وهم مع ذلك مشركون يؤمنون ببعض ولا يؤمنون ببعض (٤).
إذن لم يخلط بين ظهر القرآن وبطنه وذكر كلّا على حدّه بأمانة. على أنّ الأخذ بالبطن كان مستندا إلى النبويّ الشريف ، مضافا إلى كونه الأخذ بمفهوم الآية العامّ ـ حسبما نبّهنا ـ مراعيا جانب المناسبة القريبة. فقد استجمع شرائط التأويل الصحيح.
نعم إنّ إخضاع القرآن للّغة التي مقياسها الوضع المحدود ، عقال له عن الانطلاق فيما وراء الغيوب ، وإغلاق لباب الفهم الذي مقياسه العقل الرشيد مدعما بإدراكات كان مجالها ما فوق العقل ألا وهو القلب الذي لا تحدّه الحدود ، لأنّه عرش استواء تجلّيات الربّ تعالى على مملكة الجسم.
[م / ٣٦] كما جاء في الحديث القدسي : «لم يسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» (٥) وهو القلب الذي اختصّه الله بالأسرار ويجب أن يستفتيه الإنسان إذا حار.
[م / ٣٧] سأل وابصة بن معبد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن البرّ والإثم؟ فقال : «يا وابصة! استفت قلبك ؛ البرّ : ما اطمأنّت إليه النفس واطمأنّ إليه القلب. والإثم : ما حاك في قلبك وتردّد في الصدر ، وإن أفتاك الناس» (٦).
فذلك القلب له لغته كما أنّ للوضع لغته وللعقل لغته. فإذا كانت لغة الوضع تدرك بالألفاظ ويعبّر
__________________
(١) يوسف ١٢ : ١٠٦.
(٢) المستدرك للحاكم ٢ : ٢٩١ ؛ الكامل ٧ : ٢٤٠.
(٣) الزخرف ٤٣ : ٨٧.
(٤) راجع : تفسير التستري : ٨٣.
(٥) البحار ٥٥ : ٣٩.
(٦) مسند أحمد ٤ : ٢٢٨.