قيل : أمّا سماعا من العرب فلا ، ولكن استدلالا!
يعنى : إنّه لم يثبت تصريف أله يأله بمعنى عبد يعبد ثلاثيّا في أصل اللغة ، حسبما قدّمنا. غير أنّه يمكن إثباته استدلالا ... ثمّ أخذ في الاستدلال واستشهد بقول رؤبة بن العجّاج :
لله درّ الغانيات المدّة |
|
سبّحن واسترجعن من تألّهي (١) |
يعني : من تعبّدي وطلبي الله بعمل.
قال : وإذ ثبت التألّه بمعنى التعبّد ، وهو مزيد فيه ، فلا بدّ أن هناك في مجرّده الثلاثي أيضا ثابت!
[١ / ٣١٦] واستشهد أيضا بما رواه سفيان بن وكيع رفعه إلى ابن عبّاس : أنّه قرأ : ويذرك وإلاهتك (٢) ، قال : عبادتك. قال : إنّما كان فرعون يعبد ولا يعبد.
وكذلك كان يقرأها عبد الله ومجاهد ويفسّرانها بذلك.
قال : والإلاهة مصدر ثلاثي من قول القائل : أله الله فلان إلاهة ، كما يقال : عبد الله فلان عبادة ، وعبر الرؤيا عبارة. فقد ثبت من قول ابن عبّاس ومجاهد : أنّ «أله» : «عبد» وأنّ الإلاهة مصدره ... (٣)
قال ابن عطيّة ـ وهو يتابع ابن جرير ـ : وذهب كثير من أهل العلم إلى أنّ «الله» مشتقّ من «أله الرجل» إذا عبد ، و «تألّه» إذا تنسّك. ومن ذلك قول رؤبة بن العجّاج ... وقوله تعالى :
«ويذرك وإلاهتك» على هذه القراءة ، فإنّ ابن عبّاس وغيره (يريد به مجاهدا) قال [في تفسيره] وعبادتك. قالوا : فاسم «الله» مشتقّ من هذا الفعل ، لأنّه الذي يألهه كلّ خلق ويعبده ـ حكاه النقّاش في صدر سورة آل عمران ـ فإلاه ، فعال من هذا (٤).
قلت : لا شكّ أنّ اللغة توقيف ولا يحتمل الاجتهاد النظري ، فإذ ثبت عدم السماع في «أله» بمعنى «عبد» ، واعترف به الطبري (٥) ـ وهو الرجل الخبير بمواضع اللغة ـ فأيّ موضع بعد ذلك للاستدلال إذا لم يكن له شاهد في اللّغة العربيّة الأولى؟!
وأمّا ما تشبّث به قياسا من شعر رؤبة ، فلم يثبت أنّه أراد من التألّه : التنسّك بمعنى العبادة ، بل الظاهر أنّه أراد التوغّل والإمعان في ألوهيّة الربّ تعالى أي التفكّر فيها والتخضّع في ساحة قدسه
__________________
(١) الغانيات ، جميع الغانية : المرأة الغنيّة بحسنها وجمالها الفارهة الجمال. والمدّه ، جمع ماده من مده بمعنى مدح تزلّفا.
(٢) والقراءة المشهورة : «وآلهتك» في قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) الأعراف ٧ : ١٢٧.
(٣) الطبري ١ : ٨٢ ـ ٨٣ والحديثان رقم ١١٧ و ١١٨ وبعده.
(٤) المحرّر الوجيز ١ : ٦٣.
(٥) وقد مرّ في كلام الخليل أيضا ـ وهو أبو العربيّة ومحتدها الأصيل ـ!