بأنّه لا يجني الجاني على أكثر من نفسه ، فإذا وردت رواية مخالفة لذلك ، ينبغي أن لا يلتفت إليها (١).
انظر كيف جعل ظاهر الكتاب نصّا بعد دعمه بصريح الروايات ، وجعل ما يخالف هذا الظاهر مخالفا للكتاب. وهو أسلوب فنيّ دقيق ، قد يخفى على غير ذوي الاختصاص بمشارب الفقاهة.
وللشيخ في ترجيحاته لمختلف الروايات أساليب تنبؤك عن سعة باعه في طريقة الاجتهاد والاستنباط ، ولا بدّ أن تؤخذ أسوة ـ كما كانت عند السلف والخلف من فقهائنا العظام ـ ولا يجعل مجرّد اعتبار السند أو محض وثاقة الراوي معيارا للقبول.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل يجعل العرض على الثابت من قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مقياسا لتمييز الصحيح عن السقيم.
[م / ٣٤٢] قال محمّد بن منصور : كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل : يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يروى : أنّ عليّا عليهالسلام قال : «أنا قسيم النار»؟ فقال أحمد : وما تنكرون من ذا؟ أليس روينا أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لعليّ عليهالسلام «لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق»؟ قلنا : بلى! قال : فأين المؤمن؟ قلنا : في الجنّة. قال : وأين المنافق؟ قلنا : في النار. قال أحمد : فعليّ قسيم النار! (٢)
نماذج من نقد الحديث ذاتيّا
ولقد كان نقد الحديث متنا (ذاتيّا من داخل محتواه) أمرا معروفا منذ البداية ولا يزال. وإليك أوّلا النقد بمخالفة الكتاب :
[م / ٣٤٣] روى البخاري في صحيحه بالإسناد إلى مسروق بن الأجدع قال : قلت لعائشة : يا أمّتاه! هل رأى محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ربّه؟ فقالت : لقد قفّ شعري (٣) مما قلت! أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ فقد كذب :
١ ـ من حدّثك أنّ محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم رأى ربّه ، فقد كذب. ثمّ قرأت :
(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٤). (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)(٥).
__________________
(١) الاستبصار ٤ : ٢٦٨ / ٥ ـ ١٠٠٩ ، باب ١٥٥.
(٢) طبقات الحنابلة ١ : ٣٢٠. (الإمام الصادق والمذاهب الاربعة ـ أسد حيدر ٤ : ٥٠٣).
(٣) يقال : قفّ شعره ، إذا قام لشدّة الفزع.
(٤) الأنعام ٦ : ١٠٣.
(٥) الشورى ٤٢ : ٥١.