العصور وهو كروية الأرض ، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك ، تلطّف ـ وهو الإمام العالم بأساليب البيان ـ بالإشارة إلى ذلك على وجه بليغ ، فإنه عليهالسلام لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار ، وينقص النهار تارة اخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل ، لاقتصر على الجملة الاولى : «يولج كل واحد منهما في صاحبه» ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية : «ويولج صاحبه فيه» إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه ، لأن ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية ، ففي هذا دلالة على كروية الأرض ، وان إيلاج الليل في النهار ـ مثلا ـ عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين. ولو لم تكن مهمة الإمام عليهالسلام الإشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الأخيرة فائدة ، ولكانت تكرارا معنويا للجملة الاولى.
ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي ، وفي ذلك كفاية ودلالة على أن القرآن وحي إلهي ، وخارج عن طوق البشر.
وكفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرّج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير وينهل من بحار علمه كل محقق متبحر. وهذه خطبه في نهج البلاغة ، فإنه حينما يوجه كلامه فيها الى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل ، حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه ، فممّا لا شك فيه أن هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي ، ومقتبسة من أنواره ، لأن من يعرف تاريخ جزيرة العرب ـ ولا سيما الحجاز ـ لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع