قد أخبروا أنه لم يأت بآية ، ووافقهم هو على ذلك ، ولم ينازعهم فيه ، بل أحالهم في الآية على مجرد قدرة الله ـ عزوجل على إنزالها ومجرد القدرة على إنزالها ، لا يقتضي إنزالها ، فبقي على أصل العدم وبقي الحال على ما زعمه القوم من أنه لم يأت / [٧٥ / م] بآية. والجواب من وجهين :
أحدهما : أن هذا إنما كان بعد أن ظهرت آياته ، وبهرت ، لكن هؤلاء الكفار تلقوها بالعناد المحض ، وزعموا أنها سحر مستمر كما عاند فرعون آيات موسى ، وعاند اليهود آيات المسيح ، فكان قول الكفار : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) بناء منهم على أن ما جاءهم به من الآيات ليس بشيء ، بناء على عنادهم ، وسوء اعتقادهم.
الوجه الثاني : [أن معنى الآية : لو لا نزل عليه آية تضطرنا] إلى الإيمان به مثل أن نرى الملائكة ، أو نرى ربنا ونحوه. فأجاب الله ـ عزوجل ـ بأنه قادر على أن ينزل ذلك لكنه يفوت حكمة التكليف ؛ إذ المراد منهم الإيمان الاختياري ، لا الاضطراري إذ هو غير مراد ، ولا نافع ، وإلا لنفع فرعون حين أدركه الغرق ، وعاين الحق ، ولنفع أهل النار ، فإنهم يؤمنون حينئذ ، لكن إيمانا اضطراريا لا ينفعهم.
وقد نقل عن الإمام أبي حنيفة ـ رحمهالله ـ قال : لا يدخل النار إلا مؤمن ، فقيل له :
كيف ذلك؟ فتلا : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (٨٤) [غافر : ٨٤] ولعل الإشارة إلى هذا وقعت بقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣١) [الأعراف : ١٣١] أي : لا يعلمون وجه الحكمة في ترك اضطرارهم إلى الإيمان ، وفي الجواب وجه آخر أشير إليه في قوله ـ عزوجل ـ : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (٥٩) [الإسراء : ٥٩] وهو يشير إلى أن الآيات فترت عن كفار العرب فطلبوها ، فقيل لهم : إنما أمسكناها عنكم إبقاء عليكم ، لئلا تكذبوا بها ، فتهلكوا كما هلك من قبلكم.
قوله ـ عزوجل ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨) [الأنعام : ٣٨]