[٥٣ ـ ٥٧] (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧))
(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي : خلط بحر الجسم والروح في الإيجاد (هذا) الذي هو بحر الروح (عَذْبٌ فُراتٌ) أي : صاف لذيذ ، وهذا الذي هو بحر الجسم (مِلْحٌ أُجاجٌ) أي : متغير متكدّر غير لذيذ (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) هو النفس الحيوانية الحائلة بينهما من الامتزاج وتكدر الروح بالجسم وتكثفه وتنور الجسم بالروح وتجرّده (وَحِجْراً مَحْجُوراً) عياذا يتعوّذ به كل منهما من بغي الآخر ومانعا يمنع ذلك.
[٥٨ ـ ٥٩] (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩))
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أي : شاهد موت الكل وعدم حراكهم بذواتهم ، كما قال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) (١) فإنهم لا يتحركون إلا بدواع أوجدها الله تعالى فيهم بفناء أفعالك وأفعال الكل في أفعال الحق ورفع حجبها عن أفعاله إذ مقام التوكل هو الفناء في الأفعال.
وبيّن بقوله : (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) إن منشأ التوكل شهود صفة حياته التي بها يحيا كل حيّ لأن من يموت لا يكون حيّا بالذات وبالترقي عن مقام فناء الأفعال إلى الفناء في صفة الحياة يصح مقام التوكل كما قالت المتصوفة : لا يمكن تصحيح كل مقام إلا بالترقي إلى المقام الذي فوقه ، وإذا كان كل حيّ يموت إنما يحيا بحي الذات الذي حياته عين ذاته فبه يتحرك ، فلا تبال بأفعالهم فإنهم لو اجتمعوا بأسرهم على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بما كتب الله عليك ، على ما ورد في الحديث.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) ونزهه بتجرّدك عن صفاتك ومحوها في صفاته عن أن تكون لغيره صفة مستقلّة تكون مصدرا لفعله ملتبسا بحمده ، أي : متّصفا بصفاته ، فإن الحمد الحقيقي هو الاتصاف بصفاته الكمالية التي هو بها حميد وذلك هو تصحيح مقام التوكل وتحقيقه بنفي الصفات التي هي مبادئ الأفعال من الغير ، وإذا تجرّدت عن صفاتك بالاتصاف بصفاته
__________________
(١) سورة الزمر ، الآية : ٣٠.