فقال لي : «يا بن أشيم إنّ الله فوّض إلى سليمان بن داود فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١) ، وفوّض إلى نبيّه صلىاللهعليهوآله فقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢) ، فما فوّض إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقد فوّض إلينا».
ولعلّك بمضمون ذلك تعلم أنّ الترجيح بين الأخبار بالتقيّة ـ بعد العرض على الكتاب العزيز ـ أقوى المرجّحات ، فإنّ جلّ الاختلاف الواقع في الأخبار ، بل كلّه عند التأمّل والتحقيق إنّما نشأ من التقيّة ، ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا ، فظنوا أنّ هذا الاختلاف إنّما نشأ من دسّ أخبار الكذب في أخبارنا فوضعوا الاصطلاح المشهور في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة ، ليتميّز به صحيحها عن سقيمها ، وغثّها من سمينها ، وأقوى شبهة فيما ذهبوا إليه شيئان :
أحدهما : رواية مخالف المذهب ، وظاهر الفسق ، والمشهور بالكذب ، ونحوهم.
وثانيهما : ما ورد عنهم من أنّ لكل رجل منّا رجل يكذب عليه .. وأمثال ذلك ، ولم يتفطنوا أنّ هذه الأحاديث التي بأيدينا إنّما وصلت إلينا بعد أن سهرت العيون في تصحيحها ، وذابت في تنقيحها ...
ثمّ ذكر جملة من الأمارات على أنّ هذه الأخبار منقحة عن الأخبار المكذوبة وخالية عن الأحاديث المدسوسة ، وشواهد كثيرة على أنّ جلّها صادرة عن الإمام عليهالسلام.
وظاهر كلامه ـ كما ترى ـ يعطي ما نسب إليه ، خصوصا بملاحظة قوله إنّ الترجيح بين الأخبار بالتقيّة أقوى المرجّحات ، إلا أنّ التأمّل في كلامه يقتضي أنّ غرضه أنّ الاختلاف في الأخبار ليس من جهة وجود الأخبار المكذوبة ، بل سرّه التقيّة ، لا أنّه عند التعارض يحمل على التقيّة ، ولو مع عدم الموافقة للعامة ، وما ذكره من أنّ الترجيح بالتقيّة أقوى المرجّحات ؛ مراده في صورة إمكان الترجيح ، وهو ما إذا وافق أحدهما لهم ، فغرضه أنّه إذا كان الاختلاف في الغالب من جهة التقيّة ففي صورة التعارض وإمكان حمل أحدهما على التقيّة يحمل عليها ، ويعمل بهذا المرجّح دون
__________________
(١) سورة ص : ٣٩.
(٢) سورة الحشر : ٧.