ومع ذلك كلّه ، فالخبراء لم يحصل لهم اليقين القاطع بأنّ هذا هو سبب الحريق لا غير ، علماً لا يحتمل معه أي احتمال آخر ، كاحتمال أن تكون الطائرة الّتي مرّت فوق المعمل قبل احتراقه ، قد أحدثت شرارة أوجدت الحريق. فإنّ هذا الاحتمال غير معدوم على القطع ، وإن كان ضئيلاً للغاية. ومع ذلك فالمحللون للقضية يهملون هذا القدر من الاحتمال ولا يعتنون به.
وعلى ذلك ، فهناك نسبة خاصة بين التوغل في الاستقراء ، وضآلة الاحتمال المخالف ، فكلّما اتّسع نطاق الاستقراء ، وطَرَق المستقرئ كلَّ باب يواجهه ، وقطع كل طريق يعترضه ، وإن لم يستوف جميع الطرق لعدم تمكّنه منه ، أو لوجود مانع عنه ، أو لوجود صوارف خاصة ، كان الاحتمال المخالف لنتيجة الاستقراء ضئيلاً.
وكلما ضاق نطاق الاستقراء ، واكتفى المستقرئ بالأقل من الكثير ، صار الاحتمال المخالف ماثلاً في الذهن غير غائب عنه. فغيبوبة الاحتمال المخالف شدّة وضعفاً ، أو ظهوره كذلك ، تابع لاستفراغ الوسع وبذل الجهد.
ولو أردنا أن نفرغ ذلك في قالب الاصطلاح الرياضي ، نقول : إنّ بين قوة الاستقراء وضعفه من جهة ، وقوة الاحتمال وضعفه من جهة أُخرى ، تناسب عكسي. فكلما قوي الاستقراء وطال نطاقه ، ضعف الاحتمال المخالف ، وكلما قوي الاحتمال المخالف للنتيجة الّتي يفيدها الاستقراء ، يكشف عن ضعف الاستقراء. فلو أراد المستقرئ أن يصل إلى القمة من العلم العرفي والاطمئنان العقلائي ، فعليه أن يستفرغ وسعه إلى حدّ ينتفي معه الاحتمال المخالف من زوايا الذهن ، وإن كان لا ينعدم أبداً إلّا إذا كان الاستقراء تامّاً.
وليُعلم أنّ ملاك الحكم في الاستقراء هو التشابه بين الشيئين ، ومن المعلوم أنّ المتشابهين قد يختلفان في الحكم ، إلّا أنّا إذا نظرنا إلى الأكثرية فوجدناها محكومة بحكم خاص ، نُلحق البقية بها ، ولذلك لا يمكن القطع بالحكم ، إذ ليس هنا دليل عقلي يُبَرْهَنُ به على وحدة المتشابهين في الحكم.
وأمّا التجربة ـ الآتي بحثها ـ فالأساس في سريان الحكم فيها إلى جميع الأفراد ، هو التماثل في الحقيقة والتوحّد في الماهية ، ومن المعلوم أنّ المتماثلين يجب