وإن شئت قلت : إنّ القضايا على قسمين :
قضايا لا تحكي عن الخارج ، وهذه مثل الحقوق المجعولة للشعوب ، فإنّ لكل شعبٍ ، الحرية في اختيار مصيره ، فإن جنح شعب إلى الاتّحاد مع شعب آخر ليشكّلوا دولة واحدة ، فذلك لهم. وإن جنح إلى الانفصال وترك الحلف ، فذلك له أيضاً. وهو حق في كلتا الحالتين ، لأنّ الشعب يميل إليه. فهذه القضايا ليست حاكية عن الخارج ، فلا مناص من جعل الملاك فيها ، الإجماع والتصويت ، وعدمهما.
وقضايا حاكيات عن الخارج ، تُري الحقيقة الراهنة وراء الذهن. وبما أنّ الحقيقة ليست متعددة ، بل هي واحدة ، فلا يمكن أن تكون كلتا النظريتين موصوفة بالحقيقة ، فإنّ الأرض إمّا أن تدور حول الشمس ، أو تدور الشمس حول الأرض ، وليست الحقيقة خارجة عنهما. فالقول بأنّ كلتا النظريتين صائبة وحقيقية ، كل في ظرفها الخاص ، يرجع إلى السفسطة وإنكار كاشفية العلم ، فإذا كان المكشوف واحداً ، فأحد العلمين خطأ ليس له كشف ولا إراءة.
فكان الحري بهذا الفيلسوف دراسة المسائل السياسية والمسائل الكونية ، والإمعان في كل منها ، ليعرف الفرق في ملاك الحقيقة والخطأ بينهما.
النظرية الثانية : الحق هو النافع والموهوم هو الضار
وهناك نظرية ثانية في تمييز الحقيقة عن الوهم قالت بها الفلسفة البراغماتية (١) ، وهي أنّ كل ما يكون نافعاً فهو حق ، وكل ما كان ضارّاً فهو باطل. فالعدل حق ، إذ به يقوم المجتمع وينسجم ، والظلم باطل لأنّه يهدم المجتمع ويشتت شمله. وهكذا سائر القوانين والسنن الاجتماعية والسياسية.
يلاحظ عليه أمران :
الأوّل : إنّ ما ذكر إنّما يختصّ بالأحكام الكليّة والقوانين العامة ، فالصدق
__________________
(١)MSITAMGARP. لاحظ الفلسفة العلمية لفيلسين شاله ، ص ٢٠٣. وسيأتي بحث مبادئ هذه الفلسفة في الفصل الثامن عند البحث عن دوافع إخراج العوالم الغيبية عن إطار المعرفة.