مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) فدلت» : هذه الآية «أن لا استحقاق للعقاب» أي لا يستحق المكلفون العقاب «قبل ورود الشرع».
«والجواب والله الموفق أن» هذه «الآية لا تنافي ما ذهبنا إليه» من أن العقل يستقل بإدراك حسن عقاب المسيء ووجوبه قبل ورود الشرع «لأنّ المعنى» فيها «وما كنّا معذبين» أحدا من المكلفين «بعد استحقاقه العذاب بارتكاب القبائح العقلية» : أي التي أدركوا قبحها بعقولهم قبل أن تبلغهم الرسل وإن كانوا قد استحقوا العقاب بل لا بدّ من تأكيد الحجة عليهم بإرسال الرسل لقطع المعذرة كالتعزيز بنبي ثان وثالث «بدليل قوله تعالى» : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٢).
«ذلك إن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم» ارتكبوه «وأهلها غافلون» أي حال غفلتهم عن السمع أي قبل أن تبلغهم الرسل «فأخبر الله تعالى أنهم قد ارتكبوا القبيح الذي هو الظلم وهم غافلون عن السمع حيث لم تبلغهم الرسل» وسمّى ما ارتكبوه من القبائح العقلية ظلما وهي لا تكون ظلما إلّا حيث كانوا قد أدركوا قبحها بعقولهم وأقدموا عليها اتّباعا للهوى ، وتمردا عن الانقياد لحكم العقل.
«فقال تعالى» (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) : يزيح عللهم ويهدم شبههم «لئلّا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل» «بأن يقولوا» أي مرتكبو القبائح العقلية «حصل» لنا «العلم بالاستحقاق» أي استحقاقنا العقاب «ولكن لم نجزم بالوقوع» أي بوقوعه لتجويزهم أن يخفى على الله سبحانه «لعدم معرفتهم لربهم» لإهمالهم طرق النظر في معرفة الله سبحانه ، وذلك «كمن يقتل نفسا عدوانا على غفلة فإنه يعلم أنّ القصاص مستحق عليه» قطعا «ولا يجزم بوقوعه لتجويز أن لا يطلع عليه أحد» فهو يجوّز لأجل
__________________
(١) الإسراء (١٥).
(٢) الأنعام (١٣٠).