الفصل الثانى
من الباب الخامس ، فى ذكر الإطناب
فضل الإطناب |
قال أصحاب الإطناب : المنطق إنما هو بيان ، والبيان لا يكون إلا بالإشباع ، والشفاء لا يقع إلّا بالإقناع ، وأفضل الكلام أبينه ، وأبينه أشدّه إحاطة بالمعانى ، ولا يحاط بالمعانى إحاطة تامّة إلّا بالاستقصاء ؛ والإيجاز للخواصّ ، والإطناب مشترك فيه الخاصة والعامة ، والغبى والفطن ، والريض والمرتاض ؛ ولمعنى ما أطيلت الكتب السلطانية فى إفهام الرعايا.
الحاجة إلى الإيجاز والإطناب |
والقول القصد أنّ الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما فى جميع الكلام وكلّ نوع منه ؛ ولكلّ واحد منهما موضع ؛ فالحاجة إلى الإيجاز فى موضعه كالحاجة إلى الإطناب فى مكانه ؛ فمن أزال التدبير فى ذلك عن جهته ، واستعمل الإطناب فى موضع الإيجاز ، واستعمل الإيجاز فى موضع الإطناب أخطأ.
كما روى عن جعفر بن يحيى أنه قال مع عجبه بالإيجاز : متى كان الإيجاز أبلغ كان الإكثار عيّا. ومتى كانت الكناية فى موضع الإكثار كان الإيجاز تقصيرا.
وأمر يحيى بن خالد بن برمك اثنين أن يكتبا كتابا فى معنى واحد ، فأطال أحدهما ، واختصر الآخر ؛ فقال للمختصر ـ وقد نظر فى كتابه : ما أرى موضع مزيد. وقال للمطيل : ما أرى موضع نقصان.
وقال غيره : البلاغة الإيجاز فى غير عجز ، والإطناب فى غير خطل. ولا شكّ فى أنّ الكتب الصادرة عن السلاطين فى الأمور الجسيمة ، والفتوح الجليلة ، وتفخيم النّعم الحادثة ، والترغيب فى الطاعة ، والنّهى عن المعصية ، سبيلها أن تكون مشبعة مستقصاة ، تملأ الصدور ، وتأخذ بمجامع القلوب ؛ ألا ترى أنّ كتاب المهلب إلى الحجاج فى فتح الأزارقة :