ولكنه يجرى معه فلا تندّ عنه نادّة معجبة سمنا إلّا كبحها ، ولا تتخلّف عنه مثقلة هزيلة إلّا أرهقها. فطورا يفرّقه ليختار أحسنه ، وطورا يجمعه ليقرب عليه خطوة الفكر ، ويتناول اللفظ من تحت لسانه ، ولا يسلّط الملل على قلبه ولا الإكثار على فكره. فيأخذ عفوه ، ويستغزر درّه ، ولا يكره أبيّا ، ولا يدفع أتيا.
وقال بشر بن المعتمر (١) : خذ من نفسك ساعة لنشاطك ، وفراغ بالك ، وإجابتها لك ؛ فإنّ قلبك فى تلك الساعة أكرم جوهرا ، وأشرق حسنا ، وأحسن فى الأسماع ، وأحلى فى الصدور ، وأسلم من فاحش الخطأ ، وأجلب لكل غرّة من لفظ كريم ، ومعنى بديع.
واعلم أنّ ذلك أجدى عليك ممّا يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطالبة والمجاهدة والتكلّف والمعاودة ؛ ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا ، وخفيفا على اللسان سهلا ؛ وكما خرج عن ينبوعه ، ونجم من معدنه.
وإياك والتوعّر ؛ فإن التوعّر يسلمك إلى التعقيد ، والتعقيد هو الذى يستهلك معانيك ، ويشين ألفاظك ، ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما ؛ فإنّ حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف ، ومن حقهما أن يصونهما عما يدنّسهما ويفسدهما ويهجنهما ، فتصير بهما إلى حدّ تكون فيه أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس منازل البلاغة ، وترتهن نفسك فى ملابستهما ، فكن فى ثلاث منازل :
فأوّل الثلاث أن يكون لفظك شريفا عذبا ، وفخما سهلا ، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا ، وقريبا معروفا. فإن كانت هذه لا تواتيك ، ولا تسنح لك عند أوّل خاطر ، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ، ولم تصل إلى مركزها ، ولم تتّصل بسلكها ، وكانت قلقة فى موضعها ، نافرة عن مكانها ، فلا تكرهها على اغتصاب
__________________
(١) العمدة : ١ ـ ١٨٦ ، والبيان والتبيين ١ : ١٣٥.