ولما مات الإسكندر وقف عليه بعض اليونانيين فقال : قد طالما وعظنا هذا الشخص بكلامه ، وهو اليوم لنا بسكوته أوعظ ، فنظم هذا الكلام أبو العتاهية فى قوله :
وكانت فى حياتك لى عظات |
|
وأنت اليوم أوعظ منك حيّا |
وأحسن من هذا الكلام كلّه وأبلغ قول الله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ). معناه يدلّ على الله بصنعته فيه ؛ فكأنه يسجد ، وإن لم يسجد ولم يقرّ بذلك. وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ). وقوله سبحانه : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). أى لا تفهمونه من جهة السمع ، وإن كنتم تفهمونه من جهة العقل.
وقد قال بعض الهند : جمّاع (١) البلاغة : البصر بالحجّة ، والمعرفة بمواقع الفرصة. ومن البصر بالحجّة أن يدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان طريق الإفصاح وعرا ؛ وكانت الكناية أحصر (٢) نفعا. وذلك مثل ما أخبرنا به أبو أحمد ، عن أبيه ، عن عسل بن ذكوان ، قال : دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عبد الملك بن مروان ، وأراد أن يقعد معه على سريره ، فقال له عبد الملك : ما بال العرب تزعم أنّك لا تشبه أباك؟ قال : والله لأنا أشبه بأبى من اللّيل بالليل ، والغراب بالغراب ، ولكن إن شئت خبّرتك عمّن لا يشبه أباه! قال : من ذاك؟ قال : من لم تنضجه الأرحام ، ولم يولد لتمام ، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال : ومن ذاك؟ قال : سويد بن منجوف. قال عبد الملك : أكذاك أنت يا سويد؟ قال : نعم. فلما خرجا قال عبيد الله لسويد : وريت بك زنادى ، والله ما يسرّنى بحلمك عنى حمر النعم! قال سويد : وأنا والله ما يسرّنى أنك نقصته حرفا ، وإن لى سود النعم (٣).
__________________
(١) هو من كل شيء : مجتمع أصله.
(٢) فى ا ، ب «أحضر نفعا».
(٣) النعم : المال الراعى ، وأكثر ما يطلق على الإبل. والحمر : خيار الإبل.