لا تمثل الإنسان العاقل الواعي الذي يعرف الأشياء من مواقعها الأصيلة ، بل تمثل الإنسان الضائع الذي يتخبّط في متاهات الضلال فلا يميز بين الأمور ، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ لم يكونوا يحملون مقياسا واضحا للهدى والضلال يمكن دراسة الدعوة من خلاله ، بالتالي فلا معنى لاتهاماتهم ، إذ لا معنى لأن تتّهم إنسانا بالضلال ، إذا لم تقدم له المعطيات التي تثبت خطأ الفكرة التي يسير فيها أو يدعو لها.
(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) فأنا أنادي بالحقيقة الواضحة التي تحمل فكر التوحيد ، ودعوة العبادة للإله الواحد ، من موقع وضوح الرؤية للأشياء ، في ما تفرضه من قناعة مؤكّدة وموقف حاسم ، فإذا كان لكم شك في ذلك ، أو كنتم تعتبرون ذلك خطأ ، فتعالوا نناقش المسألة ، لنعرف من هو على هدى ومن هو في ضلال مبين؟ أما أنا فمقتنع بأن ليس بي ضلالة ، في ما أحمله من فكر ، وما أسير به من طريق (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) في ما حمّلني الله من وحيه وشريعته ، وما أرادني إعلانه من دعوته ؛ فلا بد لكم من الاستجابة لي ، إذا كنتم تريدون الاستجابة لله رب العالمين. (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) بكل أمانة ، من غير زيادة ولا نقصان ، فذلك هو دوري معكم ، دور المبلّغ الأمين ... ولكن دور الرسول ليس دور المبلّغ الحيادي الذي يكتفي بإيصال الرسالة دون أن يتبناها ، بل دور من يحملها بقناعة وقوة وإيمان ، وهذا ما توحي به الكلمة التالية : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) باتّباعها والسير على منهجها في الفكر والعلم لتحصلوا على سعادة الدنيا والآخرة. وقد يستوحي المتأمل من كلمة «النصح» الجوّ النفسي الحميم الذي كان يعيشه نوح تجاه قومه ، فهو الإنسان الذي يتألم لانحرافهم وضلالهم ، ويفكر في أفضل الطرق لإخراجهم من ذلك الضياع ، فيقدم لهم النصيحة من كل روحه وقلبه ؛ وتلك هي روحية الداعية في مواجهته للناس الذين يدعوهم إلى الله. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فقد أعطاني الله ـ من خلال وحيه ـ كثيرا من العلم في ما يجب على