وَرَبُّكُمْ) إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد ، وقال : (فَاعْبُدُوهُ) إشارة إلى استكمال القوة العلمية فإنه بملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام «قل آمنت بالله ثم استقم».
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(٥٢)
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدرك بالحواس. (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا أو ضاما إليه ، ويجوز أن يتعلق الجار ب (أَنْصارِي) مضمنا معنى الإضافة ، أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى في نصري. وقيل إلى هاهنا بمعنى (مع) أو (في) أو (اللام). (قالَ الْحَوارِيُّونَ) حواري الرجل خاصته من الحور وهو البياض الخالص ، ومنه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن. سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم. وقيل كانوا ملوكا يلبسون البيض استنصر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود. وقيل قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها. (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي أنصار دين الله. (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.
(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(٥٤)
(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع الشاهدين بوحدانيتك ، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم ، أو مع أمة محمد صلىاللهعليهوسلم فإنهم شهداء على الناس.
(وَمَكَرُوا) أي الذين أحس منهم الكفر من اليهود بأن وكلوا عليه من يقتله غيلة. (وَمَكَرَ اللهُ) حين رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل. والمكر من حيث إنه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يسند إلى الله تعالى إلا على سبيل المقابلة والازدواج. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أقواهم مكرا وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.
(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٥٥)
(إِذْ قالَ اللهُ) ظرف لمكر الله أو خير الماكرين ، أو لمضمر مثل وقع ذلك. (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى ، عاصما إياك من قتلهم ، أو قابضك من الأرض من توفيت مالي ، أو متوفيك نائما إذ روي أنه رفع نائما ، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى. (وَرافِعُكَ إِلَيَ) إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي. (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم أو قصدهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعاونهم بالحجة أو السيف في غالب الأمر ، ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى وإلى الآن لم تسمع غلبة لليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) الضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه ومن كفر به ، وغلب المخاطبين على الغائبين. (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.