(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وهو أن يتمتعوا بالأكل منها. (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته سبحانه وتعالى. (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في ادعاء النبوة ، أو أن الله يجيب دعوتنا. (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك ، أو أنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها. (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً) أي يكون يوم نزولها عيدا نعظمه. وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيدا. وقرئ «تكن» على جواب الأمر. (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من لنا بإعادة العامل أي عيدا لمتقدمينا ومتأخرينا. روي : أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا. وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا. وقرئ «لأولانا وأخرانا» بمعنى الأمة أو الطائفة. (وَآيَةً) عطف على (عِيداً). (مِنْكَ) صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي. (وَارْزُقْنا) المائدة والشكر عليها. (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض.
(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١١٥)
(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) إجابة إلى سؤالكم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم (مُنَزِّلُها) بالتشديد. (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) أي تعذيبا ويجوز أن يجعل مفعولا به على السعة. (لا أُعَذِّبُهُ) الضمير للمصدر ، أو للعذاب إن أريد ما يعذب به على حذف حرف الجر. (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي من عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا فإنهم مسخوا قردة وخنازير ، ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم. روي: أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، ثم قام فتوضأ وصلّى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال : ليس منهما ولكن اخترعه الله سبحانه وتعالى بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة احيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا. وقيل كانت تأتيهم أربعين يوما غبا يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها ، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره ، ولا مريض إلا بريء ولم يمرض أبدا ، ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى عليهالسلام أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطرب الناس لذلك فمسخ منهم ثلاثة وثمانون رجلا. وقيل لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة استعفوا وقالوا : لا نريد فلم تنزل. وعن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله لمقترحي المعجزات. وعن بعض الصوفية : المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف ، فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها ، فقال لهم عيسى عليه الصلاة والسلام : إن حصلتم الإيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها ، فلم يقلعوا عن السؤال وألحوا فيه فسأل لأجل اقتراحهم ، فبين الله سبحانه وتعالى أن إنزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف عاقبة ، فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يحتمله ولا يستقر له فيضل به ضلالا بعيدا.