قال أبو العالية : مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح. فقال رجل : يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله : لا تغبرون (أي لا تمكثون) إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة». ونزلت هذه الآية.
فكان اجتماع هذه المناسبات سببا لنزول هذه الآية في موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذي لم يكن مقتصرا على إبدال خوفهم أمنا كما اقتضاه أثر أبي العالية ، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عداد الأسباب.
وقد كان المسلمون واثقين بالأمن ولكن الله قدم على وعدهم بالأمن أن وعدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيها لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها. ففي الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمنا إيماء إلى التهيّؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك ، وأنّ ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول صلىاللهعليهوسلم : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور : ٥٤] ، وإذا حلّ الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة ، فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات.
والموصول عام لا يختص بمعيّن ، وعمومه عرفي ، أي غالب فلا يناكده ما يكون في الأمة من مقصرين في عمل الصالحات فإن تلك المنافع عائدة على مجموع الأمة.
والخطاب في (مِنْكُمْ) لأمة الدعوة بمشركيها ومنافقيها بأن الفريق الذي يتحقق فيه الإيمان وعمل الصالحات هو الموعود بهذا الوعد.
والتعريف في (الصَّالِحاتِ) للاستغراق ، أي عملوا جميع الصالحات ، وهي الأعمال التي وصفها الشرع بأنها صلاح ، وترك الأعمال التي وصفها الشرع بأنها فساد لأن إبطال الفساد صلاح.
فالصالحات جمع صالحة : وهي الخصلة والفعلة ذات الصلاح ، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة. وقد تقدم في أول البقرة.
واستغراق (الصَّالِحاتِ) استغراق عرفي ، أي عمل معظم الصالحات ومهماتها ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة ، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصّة وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين