اقتضى أن كل نبيء جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز عنه فيؤمنون على مثل تلك المعجزة ، «ومعنى آمن» عليه أي لأجله وعلى شرطه ، كما تقول على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا ، الثانية أن قوله : «وإنما كان الذي أوتيت وحيا» اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأوّلين أفعالا لا أقوالا ، كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر ، وإبراء الأكمه والأبرص ، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني ، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله : «فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا» إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب ، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم فيكون هو أكثر الأنبياء تابعا لا محالة ، وقد تحقق ذلك لأن المعنيّ بالتابع التابع له في حقائق الدين الحق لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول ، ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم تابعا أي أكثر أتباعا من أتباع جميع الأنبياء كلهم ، وقد أغفل بيان وجه التفريع في هذا اللفظ النبوي البليغ.
وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه أي مجموع هذا الكتاب إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز ، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة نحو قوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].
وإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر ، إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] وإعجازه لعامة الناس أن تجىء تلك العلوم من رجل نشأ أمّيّا في قوم أميين ، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميا ، ولا قبل لهم بأن يدّعوا أنهم علّموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين ، ولأنه جاء بنسخ دين اليهودية والنصرانية ، والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم ، فلو كان قد تعلم منهم لأعلنوا ذلك وسجّلوا عليه أنه عقهم حق التعليم.
وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا أثر من سلفنا ممن عد ذلك من وجوه الإعجاز اعتدادا منا بأنه من دلائل كون القرآن منزلا من عند الله ، وإن كان ذلك