بادخلوا ومرة باسكنوا ، وعبر مرة بواو العطف ومرة بفاء التفريع. وهذا التخالف بين الشيئين يقصد لتلوين المعاني المعادة حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى وتغاير أسلوب ، فلا تكون إعادتها مجرد تذكير.
قال في «الكشاف» في تفسير قوله تعالى : (قالَ)(١)(رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) في سورة الأنبياء [٤] : «ليس بواجب أن يجاء بالآكد في كل موضع ولكن يجاء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجاء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتنّ الكلام افتنانا».
ومنها اتساع أدب اللغة في القرآن. لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر ، فهو الذي يحفظ وينقل ويسير في الآفاق ، وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني ، وكان غيره من الكلام عسير العلوق بالحوافظ ، وكان الشعر خاصا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر ، وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل وهي الملح والمديح. ولهم من غير الشعر الخطب ، والأمثال ، والمحاورات : فأما الخطب فكانت تنسى بانتهاء المقامات المقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء ، وإنما يبقي في السامعين التأثّر بمقاصدها زمانا قليلا للعمل به فتأثر المخاطبين بها جزئي ووقتي. وأما الأمثال فهي ألفاظ قصيرة يقصد منها الاتعاظ بمواردها ، وأما المحاورات فمنها عادية لا يهتمون بما تتضمنه إذ ليست من الاهمية بحيث تنقل وتسير ، ومنها محاورات نواد وهي المحاورات الواقعة في المجامع العامة والمنتديات وهي التي أشار إليها لبيد بقوله :
وكثيرة غرباؤها مجهولة |
|
ترجى نوافلها ويخشى ذامها |
غلب تشذّر بالذّحول كأنها |
|
جنّ البديّ رواسيا أقدامها |
أنكرت باطلها ويؤت بحقهما |
|
عندي ولم يفخر عليّ كرامها |
وتلك مثل مجامعهم عند الملوك وفي مقامات المفاخرات وهي نادرة الوقوع قليلة السيران وحيدة الغرض ، إذ لا تعدو المفاخر والمبالغات فلا يحفظ منها إلا ما فيه نكتة أو ملحة أو فقرات مسجوعة مثل خطاب امرئ القيس مع شيوخ بني أسد. فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غض جديد صالح لكل العقول ، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها
__________________
(١) في المطبوعة : (إن) بدل (قالَ) وهو خطأ.