فبلغنا أنه أقام ببغداد في أيام المقتدر بالله زمانا يصحب الصّوفيّة وينتسب إليهم ، والوزير إذ ذاك حامد بن العبّاس فانتهى إليه أن الحلاج قد موّه على جماعة من الحشم والحجاب في دار السلطان ، وعلى غلمان نصر القشوري الحاجب وأسبابه ، بأنه يحيي الموتى ، وأن الجن يخدمونه ويحضرون ما يختاره ويشتهيه ، وأظهر أنه قد أحيا عدة من الطير. وأظهر أبو عليّ الأوارجي لعليّ بن عيسى أن محمّد بن عليّ القنائي ـ وكان أحد الكتاب ـ يعبد الحلاج ، ويدعو الناس إلى طاعته ، فوجه عليّ بن عيسى إلى محمّد ابن عليّ القنائي من كبس منزله وقبض عليه ، وقرره عليّ بن عيسى فأقر أنه من أصحاب الحلاج ، وحمل من داره إلى عليّ بن عيسى دفاتر ورقاعا بخط الحلاج ، فالتمس حامد بن العبّاس من المقتدر بالله أن يسلم إليه الحلاج ومن وجد من دعاته ، فدفع عنه نصر الحاجب ، وكان يذكر عنه الميل إلى الحلاج ، فجرد حامد في المسألة ، فأمر المقتدر بالله أن يدفع إليه ، فقبضه واحتفظ به ، وكان يخرجه كل يوم إلى مجلسه ويتسقطه ليتعلق عليه بشيء يكون سبيلا له إلى قتله ، فكان الحلاج لا يزيد على إظهار الشهادتين والتوحيد ، وشرائع الإسلام ، وكان حامد قد سعى إليه بقوم أنهم يعتقدون في الحلاج الإلهية ، فقبض حامد عليهم وناظرهم فاعترفوا أنهم من أصحاب الحلاج ودعاته ، وذكروا لحامد أنهم قد صح عندهم أنه إله ، وأنه يحيي الموتى ، وكاشفوا الحلاج بذلك فجحده وكذبهم ، وقال : أعوذ بالله أن أدعي الربوبية ، أو النبوّة ، وإنما أنا رجل أعبد الله ، وأكثر الصوم ، والصلاة ، وفعل الخير ، ولا أعرف غير ذلك (٢).
حدّثنا عليّ بن المحسن القاضي ، عن أبي القاسم إسماعيل بن محمّد بن زنجي الكاتب عن أبيه ـ وهو المعروف بزنجي ـ بما أسوقه من أخبار الحلاج إلى حين مقتله ، وكان زنجي يلازم مجلس حامد بن العبّاس ويرى الحلاج ، ويسمع مناظرات أصحابه.
قال زنجي : أول ما انكشف من أمره في أيام وزارة حامد بن العبّاس ، أن رجلا شيخا حسن السمت يعرف بالدباس ، تنصح فيه ، وذكر انتشار أصحابه ، وتفرق دعاته في النواحي ، وأنه كان ممن استجاب له ثم تبين له مخرقته ، ففارقه وخرج عن جملته ، وتقرب إلى الله بكشف أمره ، واجتمع معه على هذه الحال أبو عليّ هارون بن عبد العزيز الأوارجي الكاتب الأنباريّ وكان قد عمل كتابا ذكر فيه مخاريق الحلاج ،
__________________
(٢) الى هنا آخر المجلد الخامس من النسخة الصميصاطية. وقد وافق الفراغ من نسخه من أصل نسخة بخط الزعفراني ، وقف الصميصاطى ، تاسع ذى الحجة سنة ٦٣٤ ، ويتلوه الجزء السادس.