وكثيرا ما شنّف سمعي ، واستوكف دمعي ، وامتلك لبّي ، واستأسر قلبي ما سمعته من قراءة إمام الحرم بأوساط المفصّل في صلاة الصّبح سنة (١٣٥٤ ه) ، وتذكّرت صلاة والدي ، إلّا أنّ تلك أخشع وقراءة إمام الحرم أجود وأسمع ، فهو مقرىء غير مدافع ، ولكنّ خطابته دون ما يليق بالمسجد الحرام الّذي يطلب بلاغة تتفرّى لها الأهب ، وتكاد لها النّفوس تنتهب.
ثمّ إنّ والدي رحمه الله مع ما سبق كلّه لم يكن بالمتزمّت ولا بالمتنطّع ولا بالمنقبض ، بل لا يفارق ثغره الابتسام في سرّاء ولا ضرّاء ، وله في الدّعابة مذهب جميل ، يخرجه عن طريق المرائين المتصنّعين ، ويحلّيه بقول المتنبّي [في «العكبريّ» ٢ / ٢٨٧ من الطّويل] :
تفكّره علم ، وسيرته هدى |
|
وباطنه دين ، وظاهره ظرف |
فله معنا ـ ولا سيّما عند الأكل ، بل وفي مثاني الدّروس عند المناسبات ـ مفاكهات شهيّة ، ومنادرات لذيذة ، وتراه يصغي بسمعه وقلبه لما أنشده إيّاه من الأبيات الأدبيّة عند المقتضيات ، ويطرب لذلك ويستعيده.
وقد سبق أنّه يشاركني أحيانا في اللّعب إيناسا لي ، وضنّة بي عن مخالطة الأضداد ، فلم تكن الهيبة الغالبة عليه هيبة تعاظم ولا ترفّع ، كلّا والله ، ثمّ كلّا والله ، ولكن كما قال أبو عبادة [في «ديوانه» ٢ / ٣٠٩ من البسيط] :
يهاب فينا وما في لحظه شزر |
|
وسط النّديّ ولا في خدّه صعر (١) |
وإن كان ليجرّني الرّسن فأناقشه المسائل وأجاذبه البحث فلا يزيده إلّا سرورا واغتباطا ، على شرط أن أتوكّأ على الدّليل وأعتمد على النّصّ. ولقد جهدت أن أتعلّق له بهفوة أحتجّ بها عند ما يناقشني الحساب على المباحات ، ويكلّفني الصّعب من المجاهدات فلم أستطع.
__________________
(١) الشّزر : النّظر بمؤخّر العين ، ويكون عند الغضب. النّديّ : مجلس القوم. الصّعر : إمالة الخدّ عن النّاس تكبّرا.