وذلك من نبإ جاءني |
|
وخبّرته عن أبي الأسود |
فقال الزمخشري : فيه ثلاث التفاتات ، وهذا ظاهر على تفسير السكاكي لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة.
لا يقال : الالتفات عنده من خلاف مقتضى الظاهر ؛ فلا يكون في البيت الثالث التفات ، لوروده على مقتضى الظاهر ، لأنا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى لما تقدم.
وأما على المشهور فلا التفات في البيت الأول ، وفي الثاني التفاتة واحدة ، فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان فقيل : هما في قوله : «جاءني» إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول ، والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني ، وفيه نظر ؛ لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتبس به ، وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلا ملتبسا به ، فيكون الانتقال إلى المتكلم في الثالث من الغيبة وحدها ، لا منها ومن الخطاب جميعا ، فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة ، وقيل : إحداهما في قوله «وذلك» لأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والثانية في قوله «جاءني» لأنه التفات من الخطاب إلى التكلم ، وهذا أقرب.
واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام ، ووجه حسنه ـ على ما ذكر الزمخشري ـ هو أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ؛ كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد.
وقد تختص مواقعه بلطائف كما في سورة الفاتحة ؛ فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ، ونفس ذاكرة لما هو فيه ، بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : الآية ٢] الدالّ على اختصاصه بالحمد ، وأنه حقيق به ؛ وجد من نفسه لا محالة محرّكا للإقبال عليه ، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : الآية ٢] الدالّ على مالك للعالمين ، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيّته ؛ قوي ذلك المحرّك ، ثم إذا انتقل إلى قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣) [الفاتحة : الآية ٣] الدالّ على أنه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها ؛ تضاعفت قوة ذلك المحرك ، ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام ، وهي قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) [الفاتحة : الآية ٤] الدالّ على أنه مالك للأمر كله يوم الجزاء ؛ تناهت قوته ، وأوجب الإقبال عليه ، وخطا به بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات.