إذ المعنى أن هذا السقم الموجود والضّرم الثابت ؛ ما أنا جالب لهما ، فالقصد إلى نفي كونه فاعلا لهما لا إلى نفيهما ، ولهذا لا يقال : «ما أنا قلت ، ولا أحد غيري» لمناقضة منطوق الثاني مفهوم الأول ، بل يقال : «ما قلت أنا ولا أحد غيري» ولا يقال : «ما أنا رأيت أحدا من الناس» ولا «ما أنا ضربت إلا زيدا» بل يقال : «ما رأيت» أو «ما رأيت أنا أحدا من الناس» و «ما ضربت» أو «ما ضربت أنا إلا زيدا» لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على كلّ واحد من الناس ، وفي الثاني الضرب الواقع على كل واحد منهم سوى زيد ، وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور ، هو ما نفي عن المذكور ، فيكون الأول مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد رأى كلّ الناس ، والثاني مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد ضرب من عدا زيدا منهم ، وكلاهما محال.
وعلّل الشيخ عبد القاهر والسكاكيّ امتناع الثاني بأن نقض النفي بـ «إلّا» يقتضي أن يكون القائل له قد ضرب زيدا ، وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي أن لا يكون ضربه ، وذلك تناقض.
وفيه نظر لأنا لا نسلّم إيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ذلك.
فإن قيل : الاستثناء الذي فيه مفرغ ، وذلك يقتضي أن لا يكون ضرب أحدا من الناس ، وذلك يستلزم أن لا يكون ضرب زيدا.
قلنا : إن لزم ذلك فليس للتقديم ؛ لجريانه في غير صورة التقديم أيضا ، كقولنا : ما ضربت إلا زيدا.
هذا إذا ولي المسند إليه حرف النفي ، وإلا فإن كان معرفة كقولك : «أنا فعلت» كان القاصد إلى الفاعل ، وينقسم قسمين :
أحدهما : ما يفيد تخصيصه بالمسند ؛ للرد على من زعم انفراد غيره به ، أو مشاركته فيه ، كقولك : أنا كتبت في معنى فلان ، وأنا سعيت في حاجته ، ولذلك إذا أردت التأكيد قلت للزاعم في الوجه الأول : أنا كتبت في معنى فلان لا غيري ، ونحو ذلك ، وفي الوجه الثاني : أنا كتبت في معنى فلان وحدي ، ونحو ذلك.
فإن قلت : «أنا فعلت كذا وحدي» في قوة «أنا فعلته لا غيري» فلم اختص كل منهما بوجه من التأكيد دون وجه؟
قلت : لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة شبهة خالجت قلب السامع ، وكانت في الأول أن الفعل صدر من غيرك ، وفي الثاني أنه صدر منك ؛ بشركة الغير ؛ أكّدت وأمطت الشبهة في الأول بقولك : «غيري» وفي الثاني بقولك : «وحدي» لأنه محزّه ، ولو عكست