بالجمود ، لظنّه أن الجمود خلوّ العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر ، وأخطأ ، لأن الجمود خلوّ العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها ؛ فلا يكون كناية عن المسرة ، وإنما يكون كناية عن البخل ، كما قال الشاعر :
ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط |
|
عليك بجاري دمعها لجمود (١) |
ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعى به للرجل ، فيقال : لا زالت عينك جامدة ، كما يقال : لا أبكى الله عينك ، وذلك مما لا يشك في بطلانه ، وعلى ذلك قول أهل اللغة : «سنة جماد» لا مطر فيها ، و «ناقة جماد» لا لبن لها ، فكما لا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر ، والناقة لا تسخو بالدّرّ ، لا تجعل العين جمودا إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها ، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت ، وإذا لم تبك مسيئة وموصوفة بأنها قد ضنّت.
فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرا ، حتى يخيّل إلى السامع أنه فهمه من حاق اللفظ. كما سيأتي من الأمثلة المختارة للاستعارة والكناية.
وقيل : فصاحة الكلام هي خلوصه مما ذكر ، ومن كثرة التكرار ، وتتابع الإضافات ، كما في قول أبي الطيب :
سبوح لها منها عليها شواهد (٢)
وفي قول ابن بابك :
حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي (٣)
وفيه نظر ؛ لأن ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثّقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم ، وإلا فلا تخلّ بالفصاحة ، وقد قال النبى صلّى الله عليه وسلّم : «الكريم ابن الكريم ابن
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو لأبي عطاء السندي في شرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ١٥١ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٦٩ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٢.
(٢) صدر البيت :
وتسعدني في غمرة بعد غمرة
والبيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٧٠ (طبعة دار الكتب العلمية).
(٣) عجز البيت :
فأنت بمرأى من سعاد ومسمع
والبيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في تاج العروس (جندل).