أحدهما : ما يرجع إلى اللفظ ، وهو أن يختل نظم الكلام ، ولا يدري السامع كيف يتوصل منه إلى معناه ، كقول الفرزدق :
وما مثله في الناس إلّا مملّكا |
|
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (١) |
كان حقّه أن يقول : وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مملّكا أبو أمه أبوه ، فإنه مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان ، فقال : وما مثله ـ يعني إبراهيم الممدوح ـ في الناس حيّ يقاربه ، أي أحد يشبهه في الفضائل ، إلا مملّكا ، يعني هشاما ، أبو أمّه ، أي أبو أمّ هشام أبوه ، أي أبو الممدوح ؛ فالضمير في «أمه» للمملّك. وفي «أبوه» للممدوح ، ففصل بين «أبو أمه» وهو مبتدأ و «أبوه» وهو خبره بـ «حيّ» وهو أجنبي ، وكذا فصل بين «حي» و «يقاربه» وهو نعت حي بـ «أبوه» وهو أجنبي ، وقدّم المستثنى على المستثنى منه ؛ فهو كما تراه في غاية التعقيد.
فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل ، فلم يكن فيه ما يخالف الأصل ـ من تقديم ، أو تأخير ، أو إضمار ، أو غير ذلك ـ إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة ـ لفظية ، أو معنوية ـ كما سيأتي تفصيل ذلك كله ، وأمثلته اللائقة به.
والثاني : ما يرجع إلى المعنى ، وهو أن لا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني ـ الذي هو لازمه والمراد به ـ ظاهرا ، كقول العباس بن الأحنف :
سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا |
|
وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا (٢) |
كنى بسكب الدّموع عما يوجبه الفراق من الحزن ، وأصاب لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه ، كقولهم : أبكاني ، وأضحكني ، أي أساءني وسرّني ، كما قال الحماسيّ [حطان بن المعلّى] :
أبكاني الدّهر ويا ربّما |
|
أضحكني الدّهر بما يرضي (٣) |
ثم طرد ذلك في نقيضه ، فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في لسان العرب (ملك) ، ومعاهد التنصيص ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ١٤٦ ، ٣٢٩ ، ٢ / ٣٩٣.
(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان العباس بن الأحنف ص ١٠٦ ، وشرح عقود الجمان ١ / ١٥ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٦٨ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٢ ، وبلا نسبة في التلخيص للقزويني ص ٨.
(٣) البيت من السريع ، وهو لحطان بن المعلى في شرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ١٥٢ ، ودلائل الإعجاز ٢٦٩ ، وشرح عقود الجمان ١ / ١٥.